عمار علي حسن
ورد مصطلح «الاستحلال» في الفقه الإسلامي مقصودا به «إباحة المحرمات»، ما يعني تحرير إرادة فرد حيال ما يريد سلبه أو أخذه أو قنصه مما ليس له، أو لا يملكه، أو لا يحل له بمقتضى الشرع الإسلامي.
وتحدث الفقهاء عمن يستحلون حراما من قبيل الزناة وشاربي الخمر وآكلي الربا ولاعبي الميسر ومقترفي السحر ومرتكبي القتل بتأويلات فاسدة، ومن بينهم من رأى في هذا بابا للكفر إن كان التحريم متعلقا بمعلوم من الدين بالضرورة، ومقرونا بإنكار ما ثبتت حرمته، وليس هناك عذر في ذلك.
وهناك من فَسَّق المستحل، ولم يكفره إن كان متأولا لما يبرر له القتل أو الاستيلاء على المال.
وفي المالكية هناك رأى يقضى بتعقب ما تم استحلاله، فما كان منه صواب نفذ، وما كان غير ذلك تم رده.
ويوجد من وزع الاستحلال على المكروه والمباح والمستحب، وهنا يكون الاستحلال في رأي هؤلاء واجبا إن كان من الغيب إن عَلِمَ بها المغتاب، وقد يكون مباحا كاستحلال الغاصب من المغصوب بدلا من ردّ المغصوب.
وفي الفقه الإسلامي المتعارف عليه ورد لفظ «الاستحلال» في بعض مصادر الفقه ضمن كفر الجحود والتكذيب، وتم استعماله في سياق التسليم بالمباح وتحقيقه، وكذلك في سياق عدم الامتناع عن المحرم.
كما يتكرر دوما مصطلح «الحلال» في مقابل «الحرام» وبينهما ما هو مباح أو عفو، وهو الغالب.
لكن مع الجماعات والتنظيمات المتطرفة صاحبة المشروع السياسي تعزز تكرار كلمة «استحلال»، التي تبدو لديهم، هي في حد ذاتها، تعبيرا عن اغتصاب الحلال نفسه، أو إدخال فيه ما ليس منه.
وقد اختلط لدى هؤلاء مفهوم الاستحلال بمفهومي «الغنيمة» و«الفيء»، باعتبار الأولى هي ما استولى عليه المسلمون من أموال العدو وعدته في الحرب، ويذهب خُمسه إلى «بيت مال المسلمين» ليصرف في المصالح العامة.
وتوزع البقية على المحاربين، عملاً بالآية القرآنية التي تقول: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (الأنفال: 41).
وأما الفيء فهو ما حصل عليه المسلمون بلا قتال، أو عن صلح بغير إيجاف خيل ولا ركاب، ويعود كله إلى بيت المال، أو كيفما يرى ولي الأمر، مثلما كان يعود إلى الرسول في البداية، عملاً بالآية القرآنية التي تقول: «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُم وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر: 7).
لكن هناك من رأى أنّ الغنيمة والفيء شيء واحد، وهم أولئك الذين يقولون بالنسخ في القرآن، بحيث صار الخمس لمن كان له الفيء، وفق ما ورد في سورة الحشر، وسائر ذلك لمن قاتل عليه.
رغم أن سيد قطب يرى في تفسيره للقرآن، المعروف باسم «الظلال»، أنّ موضوع الغنائم برمته لا يواجه المسلمين اليوم، ولا يمثل واقعهم المعيش، لأنهم في رأيه لا يعيشون في دولة مسلمة أو أمة مجاهدة، تحت إمام مسلم، وبذا يكون الحديث عن الغنائم والفيء هو من قبيل البحوث النظرية الفارغة، فإنّ مسألة الغنيمة والفيء اختلطت بتصور المتطرفين في أدبياتهم عن «الاستحلال»، من بابين أساسيين:
الأول هو استحلال المال العام مع أموال المخالفين في الدين أو في المذهب أو حتى في الجماعة والتنظيم، والثاني هو استحلال عمليات التزوير والتزييف، سواء للعملات أم للمستندات بغية تحصيل تمويل للعمليات العنيفة، أو جذب الأتباع، أو في شراء الضمائر والنفوس والذمم أو في تكوين ثروة اقتصادية هائلة تساعد قادة التنظيمات في تحصيل التمكين الاجتماعي، أو في الإنفاق على الحياة الخاصة لهم.
وقد وردت كلمة «استحلال» في البيان الذي أصدره مُنظر وفقيه القاعدة الأول، سيد إمام عبدالعزيز، المعروف باسم الدكتور فضل، من أحد السجون المصرية، وطرح فيه مبادرة تحرم التوسع في القتل باسم الإسلام، وتستنكر إزهاق الأرواح على خلفية الجنسية أو اللون أو المذهب، وترفض سلب أموال المعصومين، وتخريب الممتلكات، تحت أي ذريعة.
وفي اعترافات منتمين إلى جماعات وتنظيمات سياسية إسلامية تنتشر في بلدان عديدة، وردت كلمة الاستحلال كثيرا معطوفا عليها حديث عن سلب الأموال، ونهب الممتلكات بغية الحصول على تمويل بأي ثمن، لا سيما لدى الجماعات المحلية، التي لا تتوافر لها مصادر مساعدة من جهات أجنبية، ولا يتبناها أو يساندها سرا بعض الموسرين الموالين لما تسمى «السلفية الجهادية».
فقبل أن تتصل هذه التنظيمات والجماعات بالعولمة مع ثورة الاتصالات، وهجرة العنف إلى أرجاء الأرض كافة، كانت تهاجم بنوكا ومصارف ومحلات ذهب مملوكة لمواطنين عاديين، وتستولى على كل ما فيها من مصوغات مشغولة لبيعها وشراء أسلحة أو تدبير نفقات أخرى تحتاجها في القيام بعمليات مسلحة، أو نشر أفكارها في ربوع المجتمع.
ففي تسعينيات القرن العشرين كانت محلات الذهب المملوكة للمسيحيين في مصر مثلا مستباحة من قبَل تنظيمي «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد».
وطيلة سنوات فائتة لجأت بعض الجماعات العنيفة في الصومال إلى القرصنة في المحيط الهندي لتوفير أموال تنفقها على مختلف أنشطتها.
وفي أواخر عام 2014 تم القبض على خلية مسلحة في المغرب، مكونة من مغربي وجزائري وفرنسي، بعد نجاحها في السطو على أموال من مؤسسات مالية بفرنسا عن طريق النصب بهدف تمويل عملياتها الإرهابية، وتهجير مجندين من المغرب وفرنسا للالتحاق بتنظيم الدولة في العراق والشام (داعش).
وقد كان هؤلاء يتقدمون إلى بنوك فرنسية بأوراق مزورة تخص شركات وهمية، من أجل الحصول على قروض مالية.
وإلى جانب مداخيله من فرض فدي مالية باهظة لتحرير الرهائن الأجانب الذين اختطفهم، وفرض الضرائب والجمارك والجبايات، وتلقى أموال من أجهزة استخبارات، شكل «الاستحلال» المبدأ الرئيسي لدخل تنظيم داعش وقت قيامه وتمكنه من أرض واسعة في العراق وسوريا، حيث فُتح أمامه باب النهب والسلب.
دأب تنظيم (داعش) في سنوات تمكنه، على الاستيلاء على بعض المؤسسات والمصالح الخدمية، كالمستشفيات ومرافق المياه والكهرباء، وكذلك على بعض المحال التجارية والمطاعم، ونهب ما بها من مؤن وسلع وموارد، أو إدارة التنظيم لها، وتحصيل عوائدها. وأثناء تمكنه أغار «التنظيم» على بعض القرى والمدن واستولى على ما وجده نافعا له، بدعوى أنّها «غنائم حرب»، وفي مقدمة هذا سرقة البنوك، مثلما جرى مع بنك الموصل، وخزائن الشركات الكبرى. وقد درج التنظيم على بيع البضائع والمواد غير العسكرية في أسواق محلية لبيع المسروقات، وكان يسمح لمسلحيه بشراء هذه البضائع بنصف ثمنها. كما كان يمكن للناس أن يشتروا أى شىء مما تم نهبه، بدءا من السيارات والأجهزة الكهربائية والأثاث وأبواب المنازل والنوافذ، وصولا إلى الماشية وقطعان الضأن.
كما استولى التنظيم على آبار نفطية في العراق وسوريا، وهرَّب محتواها وباعه في السوق الدولية السوداء بأثمان أقل من السعر العالمي الذي حددته منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، الأمر الذي جعل وقتها كثيرا من التجار، بل من الدول، تُقبل على نفط «داعش»، بما سهّل للتنظيم أن يجعل منه مصدرا أساسيا للدخل في الأماكن التي أعلن قيام دولته فوقها.
وهناك تقديرات بيّنت أنّ «داعش» كان يحصل على ثلاثة ملايين دولار يوميا من هذا المصدر، قياسا بما أظهرته صور ملتقطة من الفضاء والطائرات الحربية تُظهر ضخامة حجم تجارة النفط غير الشرعية تلك، إذ إنّ قافلة واحدة من الشاحنات الناقلة للنفط من سوريا امتدت إلى عدة كيلومترات.
واستحل التنظيم أيضا تجارة الآثار بعد استيلائه على مناطق أثرية كبرى في سوريا والعراق، وفككها، بدعوى أنها أصنام، يمكن أن تُعبد من دون الله. وسجّلت فيديوهات والتُقطت صور، تظهر تحطيمه هذه الأماكن، بينما هو في حقيقة الأمر باع كل ما عثر عليه فيها إلى تجار آثار كبار، وإلى دول معنية بالاستيلاء على بقايا الحضارات القديمة على أرض العرب.
أما استحلال الأعراض فقد مارسه داعش بإفراط، في الأماكن التي سيطر عليها، واستحل نساءها، لا سيما من الإيزيديات بدعوى أنّهن سبايا أو غنائم حرب، ومن ثم طرحهن للبيع في سوق النخاسة، التي أقامها لهذا الغرض.
وتسرّب مصطلح الاستحلال إلى وسائل الإعلام الغربية حين أصدرت اللجنة الإسلامية لإسبانيا فتوى في مارس 2005 مع حلول الذكرى الأولى لتفجيرات مدريد، تتّهم تنظيم القاعدة بالانخراط في الاستحلال، بدعوى أن هذا من قبيل الجهاد.
ولا شك أن مبدأ «الاستحلال» الذي تتبناه الجماعات السياسية الإسلامية المتطرفة يتعارَض مع القرآن الكريم، حيث يقول: «وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»، ويقول أيضا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرا».
كما يتعارض هذا المبدأ الخاطئ مع سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: «إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِى مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ويقول أيضا: «لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبتَ من سحتٍ، وكلُّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنارُ أولى به»، كما قال في حجة الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا».
لكن كثيرا من المصادر الفكرية والفقهية التي تعتمدها بعض الجماعات السياسية الإسلامية في صناعة أيديولوجيتها وإطارها الفكري ترفض مبدأ الاستحلال، بعد أن تعرّفه بأنه «جعل ما حَرَّمه الله حلالا، بصفة خاصة أو عامة»، ويصل رفضها إلى حد تكفير من يُصر على أن يجعل الحرام حلالا، ويتمسّك بمعصيته، ويجحد التحريم، إلا أن هذا الصوت يتبدّد مع إصرار حملة السلاح من المتطرفين على الاستحلال إن سنحت لهم الفرصة، وبلغوا القوة التي تمكنهم من الاستيلاء على أموال غيرهم.
نقلا عن الوطن