فى ظروف شديدة الصعوبة والاستثنائية ، سواء على المستوى الداخلى أو الإقليمى أو الدولى، اضطرت إيران الشعب والنظام الإسلامى الحاكم معاً إلى الدخول فى عملية انتخابية لاختيار رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس إبراهيم رئيسى الذى رحل فجأة إثر حادث أليم غامض ومعه وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان وطاقم رئاسى كان فى جولة تفقدية على الحدود مع جمهورية أذربيجان وافتتاح مشروعات تنموية مشتركة يوم 19 مايو الماضى. رغم هذه الظروف الصعبة خاض الإيرانيون معركة انتخابية رئاسية هى الرابعة عشرة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية فى إيران (فبراير 1979) لاختيار الرئيس التاسع لبلادهم فى انتخابات مبكرة قبل موعدها العام المقبل.
وعلى عكس كل توقعات جبهة الأعداء الواسعة لإيران سواء فى الغرب وبالذات الولايات المتحدة، أو فى معظم الدول المناوئة لإيران ومشروعها السياسى الإقليمى، لم تنفرط إيران ولم تتفكك ، على نحو ما تحدثت مصادر إعلامية أمريكية عقب حادث وفاة الرئيس الإيرانى المفاجئة بأن «الدول الغربية تستعد لمرحلة من عدم الاستقرار فى إيران».
جاءت تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة لتشهد على رجاحة وقوة العملية الديمقراطية الإيرانية من ناحية وقوة وتماسك النظام السياسى الحاكم ومؤسساته من ناحية أخرى، رغم ما توصف به هذه التجربة المحددة المعالم فى الدستور الإيرانى والمتعددة المؤسسات والهيئات والمراحل فى الخطاب السياسى الغربى بـ «الاستبدادية»، دون وعى من هذا الخطاب ونظرية الذين يستبعدون بالمطلق، أى معنى ديمقراطى فى الإسلام، ويرتضون باستعلاء لمفهوم «الديمقراطية الإسلامية» كما صاغه مفكرون مميزون فى إيران أمثال الرئيس الأسبق محمد خاتمى ورفاقه – للحال المتردى للديمقراطية الأمريكية وسقوطها، منذ عقود ، كنموذج عالمى للديمقراطية، بدليل خيبة الأمل الراهنة لدى الشعب الأمريكى للمرشحين للانتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن عن الحزب الديمقراطى ودونالد ترامب عن الحزب الجمهورى. فى تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التى تمت على مرحلتين الأولى يوم 28 يونيو الفائت والثانية يوم 5 يوليو الحالى وانتهت بفوز المرشح الإصلاحى «الدكتور مسعود بزشكيان» على منافسه الأصولى سعيد جليلى ولم يجد النظام السياسى الإيرانى غضاضة فى إعلان تدنى نسبة المشاركة الشعبية فى جولتى الانتخاب التى لم تصل إلى نسبة 50% فى المرتين، رغم أن النظام كان فى مقدوره «تزوير» النتيجة ليصل بها إلى 70 أو 80% كما هى عادة دول كثيرة توصف بالديمقراطية. كما لم تزور النتائج لصالح المرشح الأصولى القريب إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد على خامنئ وممثله فى المجلس الأعلى للأمن القومى. كما أظهرت جدية التنافس عندما رفض أى من المرشحين الأصوليين الأربعة الذين وافق «مجلس صيانة الدستور (الهيئة المختصة باختيار المرشحين) على قبول ترشيحاتهم، أن يتنازل لصالح أى من الآخرين لضمان فوز مرشح أصولى خاصة سعيد جليلى أو محمد باقر قاليباف (رئيس البرلمان) على المنافس الإصلاحى مسعود بزشكيان .
وعندما نجحت العملية الانتخابية وتم الإعلان يوم السبت (6 يوليو الحالى) عن فوز مسعود بزشكيان كان أول رد غربى، خاصة الأمريكى، أن الرئيس الجديد لن يستطيع تحقيق «التغيير» فى إيران، وكان تعليق جهات إعلامية عربية أن «قدرة بزشكيان على التغيير محدودة»، وهذا معناه أن تجربة الانتخابات «الرئاسية الإيرانية فاشلة وغير ذات اعتبار».
البعض ركز على محدودية ثقل رئيس الجمهورية فى النظام السياسى الإيرانى، على أن أساس رأس هذا النظام هو المرشد الأعلى أيا كان من هو، وأن رئيس الجمهورية ليس إلا منفذا لتعليمات وتوجيهات المرشد الأعلى. وهذا يعنى، وفقا لهذا المنظور، أن التغيير فى إيران الذى يعترف به هؤلاء هو التغيير الذى يطال شخص المرشد الأعلى، أو إلغاء سلطة المرشد الأعلى فى النظام السياسى الإيرانى، أى «إسقاط النظام» وهذا هو الوجه الأول للتغيير الذى يريده هؤلاء .
أما الوجه الثانى فهو المطالبة بتغيير السياسات دون إسقاط النظام من الناحية الفعلية، أى إسقاطه «افتراضياً» عن طريق تبنى سياسات إيرانية اختيارية تأخذ بكل المطالب الأمريكية كى تُرضى أمريكا والغرب عن إيران، أى أن تتحول إيران من جمهورية إسلامية ثورية إلى «جمهورية موز» لا تعرف إلا أن تقول «نعم» للولايات المتحدة، وبالتحديد أن تتوقف نهائياً عن مشروعها النووى، دون أى اعتبار لأن إيران مهددة بالقدرات النووية الإسرائيلية الهائلة، وأن المشروع النووى الإيرانى ليس أقل من كونه «ضمانا وجوديا للبقاء الإيراني» عن طريق تكافؤ الردع النووى مع إسرائيل، وأن تنهى إيران قدراتها العسكرية خاصة مشروع الصواريخ الباليستية ، كى لا تستطيع فى يوم من الأيام تهديد إسرائيل أو أى من جيرانها. وأن تلغى مشروعها الإقليمى وتتقوقع داخل حدودها وتتوقف عن دعم «الإرهاب» الذى هو فصائل المقاومة وجبهة المقاومة، وأن تتجه إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ، أى أن تعود إيران كما كانت فى عهد الشاه السابق دولة تابعة وخاضعة للهيمنة الأمريكية. دون ذلك لن ترضى الولايات المتحدة عن إيران، ولن تعترف بـ «ديمقراطية إيرانية، أو انتخابات إيرانية» أو «تغيير فى إيران» لذلك أعلنت (8/7/2024) أنها «لا تتوقع أى تغيير فى سياسة إيران» بعد انتخاب الإصلاحى مسعود بزشكيان، معتبرة أن هذا التطور «لا يعزز احتمالات الحوار بين البلدين» على لسان ماثيو ميلر المتحدث باسم وزارة الخارجية . اللافت فى هذا كله أن الطبقات الحاكمة الغربية الأمريكية والأوروبية تنظر إلى التغيير من منظور أحادى أى أن يتغير «الآخرون على أهوائهم، ولا يعرفون من العلاقات الدولية إلا النمط الاستعمارى الموروث أى العنصرية والتبعية والاستبداد، وهم فى ظل هذا كله يعرفون أنفسهم بأنهم : المتحضرون والديمقراطيون وغيرهم، خاصة من يرفض الخضوع لهم، متخلف وغير ديمقراطى ومستبد بل وإرهابى.
نقلا عن الأهرام