لم تفارق عيني يومًا هذه الأجساد الهزيلة، والعيون الغائرة، وتصبغات الوجوه التي كانت تملأ أفنية المدارس الابتدائية والإعدادية، وأحيانًا الثانوية، في قرى ونجوع مصر النائية التي لا تراها أعين المسؤولين؛ إما لصعوبة الوصول إليها، أو تجنبًا لأدوار ونفقات ملزمة. فقد كنت أسعى للوصول إلى أبعد نقطة يمكنني الوصول إليها في محافظات مصر المترامية شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، لمتابعة المدارس وتقييم جودة العمل بها، من باب المدرسة إلى أعلى أدوار فصولها، بحثًا عن احتياجاتهم ومتطلبات إنجاح المنظومة: معايير السلامة والأمن، خطط الطوارئ، تقييمات العملية التعليمية والمتعلمين، متطلبات ذوى الهمم ، صيانة المبانى ، الكثافة وكفاءة المعامل ووو… إيجابياتها قبل سلبياتها. لعلمي بالكثير مما تفتقده المدخلات نتيجة نقص الميزانية أو سوء توزيعها، ولم يكن منطقيًا أن أتخذ إجراءً عقابيًا أو أحقق مع مسؤولي المدارس الذين يعمل معظمهم بميزانيات يدبرونها من جيوبهم لحل طوارئ يواجهونها سنويًا. وكم شهدت من أبطال لا يعلم أحد تضحياتهم بحب وتفانٍ لإنجاح مهمتهم كرسالة لا كمهنة وواجب. وأنا قادمة من ديوان الوزارة الذي يضع يديه على كل كبيرة وصغيرة، مركزيا ولا مركزيا، وعليه تقع مسؤولية خمسة وسبعين بالمئة من حلول مشكلات الميدان لو أحسن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وصعد مراسلاتهم طلبًا للدعم أو تخفيف العبء والكثافة، أو إنذار بتهالك المبنى والتجهيزات، أو مراجعة أحد القرارات أو اقتراح قرارات وحلول، أو سد العجز الصارخ في المعلمين والأخصائيين والفنيين والعمال. لو اهتم بكل ذلك، كان سيضمن أن تتوافق النظرية مع التطبيق.
وعودة إلى نهار أحد أيام المتابعة بأحد مدارس قرى مصر، والتي ما زلت أحفظ تقريري عن الزيارة إلى الآن، فقد هالني اصفرار وجوه الكثير من التلاميذ وهم يصطفون في طابور الصباح لتحية العلم بأجسام ضعيفة يفتقر جلدها للدماء، وقصر قامة لافت للعيان، وبأحذية وملابس متهالكة. توجهت إلى مدير المدرسة لفحص دفاتر التغذية المدرسية كأولوية بعد أن لمحت أحد مباني المدرسة يتزين بلافتة “حجرة التغذية المدرسية” بعد صدمة الطابور!! سألت عن الوجبات ونوعها ومواعيد توزيعها، وعن نسب الغياب بين التلاميذ لبيان من لا يحصلون على الوجبة، فكانت الإجابات أشد وقعًا على نفسي مما رأيت في الطابور. فلم تتعد الوجبة كيس بسكويت بغلاف رديء تتصبغ بسكوتاته ببقع سوداء لا تختلف عن البيضاء التي تملأ وجوه تلاميذ المدرسة. وعلمت أن هذا الأسبوع هو أول وجبات تصلهم هذه السنة، رغم أننا كنا في منتصف العام، وأن الوجبات ليست مستمرة بشكل مستدام، وأحيانًا لا تصل للكثير من المدارس، وليس لها مواعيد ثابتة للتوزيع. ولما تعجبت وتساءلت عن أهمية الحجرة إن كانت التغذية لا تصل بشكل دائم، أفادوا بأن مسؤولي الإدارة هم من اقترح تخصيص حجرة للتغذية المدرسية، بدت وكأنها تتعمد أن تؤكد لكل زائر على وجود شيء “غير موجود” أصلا، وأن كل شيء تمام.
ولما كانت التغذية المدرسية أحد أهم أعمدة منظومة التعليم الأساسي، نظرًا لارتفاع معدل الفقر في الكثير من القرى والنجوع، وحاجة الأطفال في هذه السن الحرجة للغذاء المتكامل لتعويض نقص العناصر في وجباتهم المنزلية، حرصت على البحث عن سبب المشكلة التي شغلتني، خصوصًا مع مقارنة هؤلاء التلاميذ مع أقرانهم في العاصمة والمدارس المتميزة الرسمية والخاصة والدولية بالمحافظات الكبرى، بحثًا عن إجابات للتساؤلات عن ماهية برنامج التغذية المدرسية؟ ولمن يوجه؟ وإلى أي المحافظات؟ ومن يمول الوجبات ومسؤولية كل جهة؟ وما الميزانية المخصصة للتغذية المدرسية السنوية؟ وأين توزع؟ ومتى يبدأ التوزيع ومتى ينتهي؟ وما التحديات؟ وسبل المتابعة والرقابة والمحاسبة؟ والتي أحببت مشاركتها مع كل من يهمه الأمر للمشاركة والإلمام بكل ما يهم كل شرائح المجتمع القادر والمعسر من شؤون يتغافل كثيرون منا عن متابعتها والمشاركة بها والرقابة عليها، رغم أهميتها لهم وللسلم المجتمعي والإصلاح، أملا في الوصول لرقابة مجتمعية ومحاسبة جادة تجبر كل مسؤول على القيام بدوره المنوط به على أكمل وجه.
أفادت “النظرية”، بناء على التقارير الرسمية المحلية والدولية، بأن برنامج التغذية المدرسية في مصر هو برنامج حكومي يعتبر استثمارًا طويل الأجل في رأس المال البشري، حيث يساهم في بناء جيل صحي قادر على مواجهة تحديات المستقبل. كما يهدف إلى توفير وجبات غذائية متكاملة للتلاميذ في المدارس، سواء كانت وجبات ساخنة أو خفيفة مثل البسكويت المدعم بالفيتامينات والمعادن. وأنه يساهم في تحسين الصحة العامة للتلاميذ، وتعزيز قدراتهم العقلية والجسدية، ومكافحة الأمراض الناتجة عن سوء التغذية مثل السمنة والأنيميا والتقزم. حيث تعتبر الحكومة أن الوجبات المدرسية في مصر جزءًا مهمًا من الجهود الحكومية لتحسين صحة التلاميذ ودعم وتعزيز التحصيل العلمي لتحسين قدرة التلاميذ على التركيز والاستيعاب. وبناء على ذلك، فقد زادت الحكومة من تركيزها على تحسين جودة التغذية المدرسية كجزء من استراتيجية التنمية المستدامة 2030 في السنوات الأخيرة.
وطبقًا للخطة الموضوعة، تفيد التقارير بأن الميزانية المخصصة للتغذية المدرسية تضاعفت في بعض السنوات، مما يعكس الاهتمام المتزايد مع زيادة تدريجية في المخصصات المالية لضمان تغطية أكبر عدد من التلاميذ. واختلفت الميزانية من عام لآخر بناءً على الأولويات الاقتصادية والسياسات الحكومية!! كما شهدت موازنة العام المالي الجديد 2024/2025 زيادة مخصصات الأغذية المدرسية لتصل إلى 14.7 مليار جنيه، بزيادة قدرها 10% عن التقديرات المتوقعة للعام المالي الجاري 2024/2023!!! في حين تشير تقارير أخرى إلى أن الحكومة المصرية قد خصصت ميزانية سنوية للتغذية المدرسية حوالي 1.862 مليار جنيه مصري في العام المالي 2019-2020 (الفجوة بين الرقمين تثير الكثير من الشك في دقة الرقم).
فمن الذي يمول برنامج التغذية المدرسية؟ يتم تمويل البرنامج من خلال الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة التربية والتعليم، وهي الجهة الرئيسية المسؤولة عن تنفيذ برامج التغذية المدرسية بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي الذي يقدم الدعم الفني والمالي لتحسين جودة التغذية المدرسية في مصر. ووزارة الصحة والسكان التي تشارك في مراقبة جودة الوجبات المدرسية وضمان سلامتها، ووزارة الزراعة واستصلاح الأراضي التي تساهم في البرنامج من خلال المشروع الخدمي للتغذية المدرسية، والذي يتبعها عدد 15 مصنعًا لإنتاج وجبات التغذية المدرسية. بالإضافة إلى دعم من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وألمانيا، واليونيسف، والذين يدعمون برامج التغذية والصحة المدرسية. وبعض مؤسسات المجتمع المدني مثل بنك الطعام المصري الذي يساهم في توفير بعض الوجبات. ومساهمات شركات من القطاع الخاص حيث تساهم شركات مثل بيل إيجيبت في توفير منتجات غذائية مدعمة بالعناصر الغذائية الأساسية. وبعض المبادرات كمبادرة “إيد في إيد” التي تهدف إلى توفير وجبات غذائية متكاملة لـ 250,000 تلميذ شهريًا، وبرنامج “ابنى لبكرة” الذي يقدم وجبات ساخنة متنوعة للأطفال بأسعار رمزية. ووفقًا للإحصاءات، فإن البرنامج يغطي حاليًا أكثر من 13.5 مليون تلميذ في المدارس الحكومية على مستوى الجمهورية. وأنه قد تم توسيعه ليشمل جميع المحافظات، مع تركيز خاص على المناطق الفقيرة والنائية. وأظهرت بعض الإحصاءات أن توزيع الوجبات المدرسية يتم على التلاميذ في المدارس الحكومية خلال فترة الدراسة. كما تشير التقارير إلى أنه منذ بداية العام الدراسي 2023/2024 وحتى نهاية شهر نوفمبر الماضي، تم إنتاج وتوزيع 435 مليون وجبة تغذية مدرسية، منها 368 مليون وجبة لتلاميذ المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم، و67 مليون وجبة لتلاميذ المدارس التابعة للأزهر الشريف، بالإضافة إلى عدد 10.8 مليون وجبة جافة ومطهية.
ولما كان من الصعوبة بمكان التعقيب بمقال على صحة أو نفي أي مما جاء بالتقارير والإحصاءات والتخصصات والإنفاق، إلا بعد إنجاز بحث متكامل على مستوى الجمهورية بموافقات أمنية وشفافية للإطلاع على خطط البرنامج ونتائجه وتحدياته وإنجازه من خلال سلاسل زمنية وميزانيات وأرقام وإحصاءات بعدد تقريبي للتلاميذ الذين استفادوا من البرنامج خلال العشرين سنة الماضية، وآرائهم هم وأولياء أمورهم، ومقارنتها بنسب الحضور في نفس السنوات، وحجم ما أنفق فعليًا على المستهدف الرئيسي، وغيرها الكثير مما يصعب حصره في مقال رأي. إلا أن ما عايشته يفرض سعيًا جادًا لحل ما علق بذهني من صورة ذهنية مؤلمة لهؤلاء الملائكة الصغار، والذين لم تكن أرجلهم النحيفة تقوى على حملهم، ومسؤوليتنا جميعًا عنهم وعن حقوقهم الأساسية أمام الله وأمام أنفسنا فى وجبة غذائية متكاملة.
فالصورة المشرقة للتقارير ربما لا تظهر الواقع الفعلي، حيث شهدت مصر حوادث تسمم غذائي متتابعة في المدارس، بسبب تلوث الوجبات الغذائية أو سوء تخزينها، أو انتهاء صلاحيتها، أو سوء تصنيعها، أو فساد المتعهدين. رغم عظم المسمى على باكو بسكويت لايسمن ولا يغنى من جوع فقد عاصر معظمنا حوادث تسمم بالوجبات المدرسية عديدة في مصر في السنوات 2013، و2017، و2019، و2021، وما قبلها، مما أثار قلقًا عامًا أدى في بعض الأحيان إلى إيقاف البرنامج وتشديد الإجراءات الرقابية على جودة الغذاء المقدم للتلاميذ، والتفتيش على الموردين والموزعين، وتوعية التلاميذ والعاملين بأهمية النظافة الشخصية بعد تحولها لقضايا رأي عام. وعلى الرغم من التوسع المعلن بالتقارير، لا تزال بعض المناطق تعاني من نقص في التغطية الكاملة، وهو ما يتطلب إحصاءات أكثر دقة وتوزيعًا بأولويات احتياجات المناطق النائية الأكثر فقرًا. كما تتطلب التعاون مع كافة الجهات المعنية لتحسين معايير السلامة الغذائية وجودة وقيمة مكونات الوجبات المقدمة وتنوعها، وإفادة مناطق التوزيع من خلال إشراكهم بالتصنيع أو الإشراف والمتابعة والرقابة.
في النهاية، تظل قضية التغذية المدرسية أهم قضايا التعليم كأولوية في ظل ارتفاع معدلات الفقر، تستلزم جهدًا جادًا من الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها ومجتمعها المدني لبحث وحل مشكلاتها، ومتابعة تطبيقها، والرقابة والمحاسبة بصرامة، كي تكون تحية العلم في أفنية مدارسنا بقدر قيمة وجلال شعبها بمصر الوطن .