محمد زكي
العلاقات السياسية بين القوى والكيانات ليست ثابتة، بل هي أشكال ديناميكية تتغير وتتطور بتأثير المصالح والسياقات والظروف المحيطة. تأخذ هذه العلاقات أشكال متعددة، تبدأ في أفضل صورها بالتوحد وتنتهي في أسوأ حالاتها بالعداء، مرورًا بمراحل متنوعة تتداخل فيها التفاهمات مع الخلافات.
من التوحد إلى العداء: خارطة متدرجة
1. التوحد:
في هذه المرحلة، تبلغ العلاقة السياسية أرقى صورها، حيث يذوب الأنا في الكل، وتتشكل هوية جماعية موحدة، تُغيب الفروق لصالح مشروع واحد.
2. التعاون:
مرحلة أقل اندماجًا من التوحد، لكنها تتيح مساحة للعمل المشترك بين جماعات تختلف في رؤاها الفكرية لكنها تتفق على أهداف مرحلية أو استراتيجية. ويأخذ التعاون الحزبي أحد شكلين:
الجبهة: تكتل مرحلي يجمع قوى متباينة ضد عدو مشترك، وغالبًا ما يكون أقل تماسكًا من التحالف.
التحالف: تلاقي بين قوى ذات رؤى متقاربة، تصل أحيانًا لحد التوحد في الأهداف الكبرى، رغم بعض التباينات الجزئية.
3. التنافس:
هو الوضع الطبيعي بين الأحزاب المختلفة حيث يسعي كل حزب للحصول على أعلى مساحة من السلطة تسمح له بالاقتراب من تحقيق برنامجه وأهدافه، وهو إيجابي جدا لتنشيط وتحفيذ الحياة السياسية متى تم إدارته بطريقة واعية وعادلة.
4. الخلاف:
تتباعد المواقف وتزداد حدة التباين، دون أن يصل الأمر إلى القطيعة أو الصدام المباشر. مرحلة مليئة بالتجاذب، لكنها لا تزال تحتفظ بإمكانية التلاقي مجددًا.
5. الصراع:
يتحول الخلاف هنا إلى مواجهة علنية، وقد يأخذ أشكالًا متعددة: إعلامية، سياسية. وتغيب لغة التفاهم ليحل محلها الصدام ومحاولة فرض الإرادة.
6. العداء:
أدنى درجات العلاقة، حيث تُقطع الجسور تمامًا، وتسود الكراهية، ويصبح نفي الآخر هو الأساس. وهنا، تندر فرص المصالحة، وتغيب لغة الحوار.
التحالف والجبهة والتعاون: الفروق الدقيقة
لفهم طبيعة العلاقة بين الأطراف المتحالفة أو المتعاونة، لا بد من التمييز بين أشكال العمل المشترك:
- التحالف: كما في حالة التيار الناصري الموحد، يتم بين أطراف متقاربة أيديولوجيًا، وله طابع استراتيجي طويل الأمد، وقد يقترب من التوحد.
- الجبهة: نموذج مثل الحركة المدنية الديمقراطية يعكس جبهة تضم طيفًا سياسيًا متنوعًا، يجتمع مؤقتًا حول قضايا بعينها رغم الخلافات الجوهرية بين مكوناته.
- التعاون: كما في الجبهة الشعبية للعدالة الاجتماعية، يمثل تنسيقًا محدودًا بين أطراف مختلفة لتحقيق أهداف مشتركة، دون التزام تنظيمي طويل الأمد.
نموذج واقعي: الحركة المدنية الديمقراطية
من أبرز الأمثلة على الجبهة السياسية متعددة المشارب، تبرز الحركة المدنية الديمقراطية كمحاولة لخلق مساحة جامعة بين قوى سياسية وفكرية مختلفة. اجتمعت هذه الحركة على حاجة ملحة لتعديل قواعد المنافسة السياسية وإيجاد بديل ديمقراطي يحترم التعددية ويدعم تداول السلطة.
تضم الحركة طيفًا واسعًا من التيارات، توحدت حول قضايا أساسية، لكن تظل الخلافات بينها قائمة. وهي أقرب إلى “جبهة إنقاذ وطني” منها إلى تحالف استراتيجي، نظراً لاختلاف الرؤى الفكرية داخلها. وقد برز هذا التباين في الجدل حول وثيقة “أفق الخروج”، التي عكست صعوبة إنتاج رؤية جامعة ترضي جميع الأطراف.
ورغم ذلك، فإن قدرة الحركة على إدارة خلافاتها الداخلية، والحفاظ على صيغة تنظيمية مرنة، قد تجعلها نموذجًا سياسيًا متقدمًا، يتجاوز منطق الاصطفافات الضيقة، ويفتح الباب لتجربة ديمقراطية جديدة تنبع من توظيف التنوع بدلًا من قمعه.
فهم هذا التدرج في العلاقات، والتمييز بين الجبهة والتحالف، ليس مجرد تمرين نظري، بل ضرورة لفهم الواقع السياسي والاجتماعي، وتحليل التحالفات والتكتلات بعمق بعيدًا عن التخوين أو التمجيد.
فكل علاقة، مهما كانت طبيعتها، تحتمل أن تتطور نحو الأفضل أو تتدهور نحو الأسوأ، بحسب الإرادة السياسية والظروف المحيطة. وما بين التوحد والعداء، هناك مساحة واسعة للحوار، والعمل المشترك، والاختلاف البنّاء.