عبدالله السناوي
بتوقيت واحد طرحت الإدارة الأمريكية مقترح وقف إطلاق نار مؤقت في حربي أوكرانيا وغزة.
المقترح بذاته قفز فوق استغلاق الحلول السياسية، أو التفاف حول تعقيداتها ريثما يتم التوصل إلى مخارج ما.
في الحالتين تصاعد دور الملياردير «ستيف ويتكوف» مبعوثاً خاصاً للرئيس دونالد ترامب على حساب أية أدوار تقليدية لوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأمريكي.
إنها دولة ترامب.. السياسات كلها تتمحور حول شخصه ونوازعه. نشأت فكرة وقف إطلاق نار لمدة 30 يوماً في الحرب الأوكرانية من دون أن يكون واضحاً ما بعدها، أو إذا ما كانت هناك قواعد سوف تحكم المفاوضات المقترحة.
إذا لم يحصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما يطلبه من ضم الأراضي التي اكتسبها بالسلاح في حرب امتدّت لأكثر من ثلاث سنوات، أنهكت اقتصاده بفداحة وأضرّت بأدوار روسيا في محيطها وعالمها، فإنها خسارة يستحيل عليه قبولها.
السلام الذي يطلبه هو: «ما يضمن أمن روسيا على المدى الطويل وتنميتها المستدامة»- كما صرح حرفياً.
بالإرث التاريخي هناك أحقية روسية في مناطق عديدة تتحدث لغتها وانتمت إليها في حقب سابقة. من ناحية أخرى فإن تغيير الخرائط وضم الأراضي بقوة السلاح يعتبر خرقاً فاضحاً للقانون الدولي. في التناقض بين الحقين التاريخي والقانوني فإن أحداً لا يأبه بالثاني.
اللافت هنا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يرفض باعتبارات القانون الدولي ونص الدستور ضم أي أراض لروسيا، فيما هو شخصياً يؤيد إسرائيل في سياساتها التوسعية على حساب الأراضي الفلسطينية المحتلة بذرائع توراتية!
ترامب نفسه يقر أن يكون موضوع التفاوض: «الأراضي التي تضم إلى روسيا والأراضي التي تعود إلى أوكرانيا».
لا تمانع روسيا في انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها ترفض قطعياً انضمامها إلى حلف «الناتو»، أو أن تتمركز قوات تابعة له على حدودها المباشرة.
هذه مسألة خارج أي نقاش الآن. إنه انتصار آخر واضح وصريح لأهم الأهداف الروسية من الحرب.
لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بدت القارة الأوروبية بلا غطاء سياسي وعسكري أمريكي، وثبت في التجربة الأوكرانية أن فكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية بعيداً عن الولايات المتحدة غير ممكنة بأي مدى منظور أو متوسط.
أملى ترامب إرادته وتصوراته لإنهاء الحرب على الأوروبيين والأوكرانيين، لكنه لم يكن بوسعه إعلان القطيعة مع أوروبا، فالمعنى في هذه الحالة خسارة الولايات المتحدة لصفة الدولة العظمى، التي تقود الغرب كله. مشكلته أنه يريد إثبات قوته القاهرة دون أن تكون لديه أية تصورات سياسية لليوم التالي.
لم يمانع الرئيس الروسي في فكرة وقف مؤقت لإطلاق النار، لكنه اشترط أن تكون هناك إجابات على قضايا ومخاوف كثيرة معلقة أهمها: ألا تستخدم الهدنة المؤقتة لإعادة تسليح الجيش الأوكراني، ولعله يريد اكتساب بعض الوقت لحسم معركة «كورسك» حتى يكون انتصاره مؤكداً في أي= مفاوضات منتظرة.
لم يصطدم اللاعب الروسي مع نرجسية ترامب، لكنه لم يقع في أفخاخ أفكاره المبهمة. كان ذلك كافياً لأن يقول الأخير: «رد بوتين إيجابي، لكنه غير مكتمل».
على نحو مقارب يدير «ويتكوف» تعقيدات الحرب على غزة. اقترح خطة التفافية أخرى تمدد الهدنة حتى 20 إبريل/نيسان المقبل مقابل إطلاق سراح عدد محدود من الأسرى وبعض الجثث.
إنه تحلل كامل من استحقاقات المرحلة الثانية لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقعت عليه إسرائيل وكان ويتكوف مهندسه وراعيه!
في حقيقته هو اقتراح إسرائيلي يستجيب لطلب بنيامين نتنياهو بتمديد المرحلة الأولى للتهرب من استحقاقات الثانية، خشية تقويض حكومته اليمينية المتطرفة..إنها الهزيمة كما يراها.
بصياغة أخرى فهو الفشل في تحقيق أي من أهدافه المعلنة للحرب، لا «حماس» اجتثت ولا الرهائن عادوا دون صفقات.
المعضلة الأمريكية في غزة، كما في أوكرانيا، أن ترامب يدير أزمات معقدة دون أي رؤية، أو أهداف معروفة يسعى إليها. يقول الرأي وعكسه ويناقض نفسه من وقت لآخر.
بدا تصريحه الأخير أن أحداً لا يستطيع تهجير فلسطيني واحد من غزة مناقضاً بصورة كاملة لدعوته «تطهير القطاع» من سكانه، دون أن يعني ذلك تبنيه للورقة المصرية عن إعمار غزة، التي باتت عربية بعد تصديق القمة الطارئة عليها.
فتح قنوات حوار مع «حماس» في الدوحة دون أن يتوقف عن التلويح بقمعها وفتح بوابات الجحيم عليها.
بصورة، أو أخرى، تبدت فجوات بين ترامب ونتنياهو لا تستبعد الصدام بين الحليفين السابقين.. ذلك مجرد سيناريو، يصعب التعويل عليه بالنظر إلى طبيعة إدارة ترامب الأكثر انحيازاً لإسرائيل في التاريخ الأمريكي.
أخطر ما تنطوي عليه مفاوضات الدوحة قضيتان ملغمتان بالحسابات المتناقضة: الأولى، نزع سلاح «حماس»، أو أن تحصد إسرائيل بالتفاوض ما فشلت فيه بالحرب على مدى خمسة عشر شهراً.. لم يكن أحد من الوسطاء العرب، مستعداً أن يضغط في هذا الاتجاه.
والثانية، من يدير غزة في اليوم التالي؟
الإجابة العربية، المصرية بالأساس، أن تتولى المهمة لجنة تكنوقراط، لمدة محددة، لا تشارك فيها «حماس»، وأن تكون هناك شرطة فلسطينية احترافية لحفظ الأمن يجري تدريبها في القاهرة. «حماس» لا تمانع والسلطة تتهمها بالاتصال بالأمريكيين دون إذن منها!
كان ذلك اتهاماً بالخيانة العظمى دون سند أو نظرة في المرآة لما ترتكبه السلطة نفسها من جرائم بحق شعبها بذريعة التنسيق الأمني مع إسرائيل.
في حربي أوكرانيا وغزة الحسابات كلها سائلة وملغمة وبلا أفق سياسي.
نقلا عن الخليج