حسين عبد الغني
ضبط النّفس والحذر هما أكثر ما يقتضيه التّحليل السّياسي في فهْم المشهد السّوري السّائل الذي يُعدّ تابعًا من توابع “طوفان الأقصى” المُزلزِل. أحد أسباب التّريّث هو الاستقطاب العدائي الذي شقّ رأسيًا وعدائيًا تيّارات الأمّة، بخاصة القوميّين والإسلاميّين ومعهم شعوبها ودولها حيال الأزمة السّوريّة منذ 2011 كما لم يفعل مشهد آخر من مشاهد ما عُرِف بالرّبيع العربي.
جعل هذا الاستقطاب – الذي عاد بقوّة بعد وحدة شعوريّة قصيرة للأمّة كانت بوصلتها غزّة – آراء القوْم منذ سقوط دمشق تقع إمّا بين التّأييد المُطلق أو الرّفض المُطلق، بين التّفاؤل المُفرط لدرجة نسيان الدّروس القريبة أو التّشاؤم الباكي لدرجة إغفال أنّ سقوط هذا النّظام كان قدرًا مقدورًا تأجّل كثيرًا بسبب إدراك الكثيرين لأهمّية سوريا الجيوستراتيجية.
لكن السبب الأهمّ هو أنّ الجميع – ما عدا العرب – لديهم مشاريع جاهزة لاستغلال الفراغ القائم في الوضع السّوري الرّاهن لزيادة مكاسبهم (إسرائيل/تركيا/أميركا وبعض دول الخليج وهم أكبر الفائزين) أو تقليل خسائرهم إلى حدّها الأدنى (إيران وروسيا).
زرْع الثّقة لدى الأقليّات والإقليم والعالم يتطلّب قيادةً انتقالية لم توغِل في الدّم
في تقدير الموقف هذا، نحاول أن نصدّق أنّ ترتيبات اتفاق اجتماع الدّوحة (آستانا+) والذي تخلّى الأسد بمقتضاه عن الحُكم قد ضمِن منعًا لانهيار الدّولة والجيش في سوريا كما حدث في تجارب الفوضى في العراق وليبيا.
يشدّد عزمي بشارة وهو أهمّ مُنَظِّر للحالة السّوريّة منذ اندلاعها على أنّ الدّولة سيتمّ الحفاظ على مؤسّساتها ولن تُهدم والجيش السوري لن يُحلّ. وينصح بمرحلةٍ انتقاليّة تقودها حكومة كفاءات ومجلس عسكري، يُنجز خلالها دستور ديموقراطي يقوم على المواطَنة ويتفادى خطايا مجلس “بريمر” الانتقالي الذي أسّس للصّراع الطّائفي والفوضوي في العراق.
يتنبّأ بأنّ سوريا ستصنع نموذجًا ديموقراطيًّا يستفيد منه العالم العربي. سيُراجع كثيرون هذا التوقّع بعد أن تذهب “السَّكرة وتأتي الفَكرة”. حتّى يتمّ هذا الاختبار فإنّ الشّكوك في تحوّل “الجولاني” الذي قاد “داعش” ثم “القاعدة” في سوريا وعمل مع أبو بكر البغدادي ثم مع أيمن الظواهري، تظلّ شكوكًا جدّية عبّر عنها موقف الاتحاد الأوروبّي أنّه لن يُزيل “الجولاني” من قائمة الإرهاب.
زرْع الثّقة لدى نحو ٢٥٪ من الأقليّات في نوايا العسكريّة السّنّية الجهاديّة التي تحكم دمشق الآن وزرْع ثقة الإقليم والعالم سواء للتقدّم نحو ضمان عمليّة ديموقراطيّة مفترضة أو للمشاركة في إعادة الإعمار، يتطلّب قيادةً انتقالية لم توغِل في الدّم مثل الجولاني ومقاتليه ونظام الأسد وضبّاطه. ولقد كان لفاروق الشرع موقف ضدّ العنف الذي استخدمه النّظام في مواجهة الأيّام الأولى للانتفاضة. الموقف الذي صرّح به لجريدة “الأخبار” اللّبنانية تسبّب بعزله من النّظام ١٣ عامًا. فاروق لم تتلوّث يداه في الدّم وهذا يجعله مقبولًا لدى أوليّاء الدم ومصدر طمأنة للأقليّات.
تحتاج مرحلة الانتقال إلى شخصٍ مستعدّ لوضع خبراته في خدمة عمليّة سلميّة تقود لنظام غير عسكري وغير ثيوقراطي
هناك حاجة لقيادة لا يساور دولًا في الإقليم مثل السّعودية بشأنها شك وريبة، مثل شكوك الريّاض في نوايا “الجولاني”، والخوف من موجة إرهاب جديدة يحملها للمنطقة وصوله للحكم.
تضيف خبرة معظم التّجارب في العالم الثّالث سببًا آخر لقيادة المرحلة الانتقاليّة بقيادة مدنيّة، إذ تحسم هذه الخبرة أنّه لم تنتصر أبدًا كفّة المدنيّين في أي عمليّة سياسيّة تنافسيّة كان فيها العسكريّون في الكفّة الأخرى، ووضع شخصيّة ثقيلة قد يحدّ من شهوة الاحتفاظ بالسّلطة عند العسكريّين في مراحل الانتقال.
ومن التّحليلات التي تحظى بتقدير في فهم فشل تجارب الرّبيع العربي في بلد كمصر، هو إقصاء “الإخوان” للجميع بمن فيهم خبرات وطنيّة وتولية رئاسة الحكومة والدّولة لشخصيّات بلا خبرة ولا يعرفها العالم مثل رئيس الوزراء هشام قنديل، لدرجةٍ أنّ رئيس وزراء قطر السّابق أهمّ داعمي حكم “الإخوان” آنذاك صرّح بعد انتهاء حكمهم “بأنّهم لم يكونوا ليصلحوا لإدارة دكّان”. فاروق الشّرع شخصيّة دوليّة ومعروف لكلّ دول العالم مذ كان وزيرًا للخارجيّة ونائبًا للرّئيس.
طبيعة المرحلة الانتقالية عينها باعتبارها جسرًا بين نظام قديم ونظام جديد، تحتاج إلى شخصٍ يُجسّد النّظامَيْن فيكون رجل دولة سابق بخبرات محليّة ودوليّة لكنّه لم يكن متورّطًا في الدم ولم يكن متورّطًا في الفساد الذي كان قد نخر عظم النّظام وجعله مجوّفًا قابلًا للسّقوط عند أوّل ضربة، حتى لو كانت مدبّرة مع أنقرة.
تحتاج مرحلة الانتقال إلى شخصٍ مستعدّ لوضع هذه الخبرات في خدمة عمليّة سلميّة تقود لنظام غير عسكري وغير ثيوقراطي. تنطبق هذه الصّفات كثيرًا على فاروق الشّرع وربّما تنطبق على آخرين مثله من الكفاءات السّورية في الداخل والمهجر، ولكن ليسوا في شهرته.
ما يرجّح كفّة فاروق الشّرع أنّه مثل أحمد الشّرع ينتمي إلى الأغلبيّة السنّية – ٧٥٪ من سكان سوريا – ولكنّه موثوق في بُعده عن الإرهاب وهو ما يمنح العمليّة زخمًا شعبيًا.
تزداد الحاجة إلى شخصٍ أو صفات فاروق مع تزايد قلق العرب من أنّ النّفوذ الإيراني الّذي يزول عن سوريا، يحلّ محلّه نفوذ، بل احتلال إسرائيلي وتركي وأميركي. تزايد الخطر بعد قيام الثّلاثي معًا بتدمير كل سلاح الجوّ والدّفاع الجوّي والصّواريخ ومعسكرات السّلاح للجيش السّوري. اغتصبت إسرائيل جبل الشّيخ والمنطقة العازلة ووصلت إلى الإشراف على الحدود السّوريّة – اللّبنانيّة والسّوريّة – الأردنيّة.
قد يهدِّئ وصول شخص مثل فاروق الشّرع المخاوف من فقدان خط سوريا العروبي
مرحلة انتقالية يرأسها شخص مثل فاروق الشّرع قد تهدِّئ من مخاوف أنّ سوريا ستصبح بداية تقسيم المنطقة لدويلات. فمعروف أنّ الشّرع عنده التزام صارم بوحدة الدّولة السّورية. كما أنّ موقف الشّرع العروبي من الصّراع مع إسرائيل ومن دعم المقاومة الفلسطينية معلن، بينما يشكّ كثيرون في أنّ “جبهة تحرير الشام” ستكون في وارد الصّراع مع إسرائيل، بخاصّة أنّ توقيت هجومها تمّ في اليوم عينه لوقف إطلاق النّار بين إسرائيل ولبنان وبعد مشاورات للمعارضة المسلّحة قبل هجومها شملت تركيا وأميركا وإسرائيل.
كذلك، فإنّ المخاوف من فقدان خط سوريا العروبي الذي ميّزها طوال تاريخها ـ وليس اختراعًا لنظام الأسد – والمهدّد بالزّوال مع وصول أنصار “الخلافة الإسلاميّة” و”التّتريك”، قد يهدِّئ هذه المخاوف وصول شخص مثل فاروق الشّرع بينما يزيدها وصول قيادة المرحلة الانتقالية إلى أحمد الشّرع الذي يعترف أحد أقرب مُعاونيه للصّحافة الأميركيّة بأنّ الرجل لم يتغيّر فكريًّا البتّة وبأنّ تصريحاته عن الحكم المدني ليست سوى “مساحيق تجميل”. هذا التّقدير يحاول أن يتعامل مع مسار عمليّة سلميّة لكنّه يعلم أنّ المسار الآخر للعنف والفوضى والتّقسيم مطروح بقوة وبالقدر عينه.
(نقلا عن “عروبة 22”)