هذه هى المقالة الأخيرة عن الندوة المهمة التى نظمتها مؤسسة بطرس غالى للسلام والمعرفة (كيميت)، وكانت المقالة الماضية قد عرضت للتعقيب الممتاز للدكتور على الدين هلال على المداخلة المهمة الشاملة للمتحدث الرئيسى فى الندوة السيد عمرو موسى، وبعض اتجاهات النقاش فى موضوعى احتمالات توسيع نطاق الحرب ومستقبل القضية الفلسطينية، وبقى لهذه المقالة تناول ما تطرقت إليه المناقشات بخصوص الدور الأمريكى والمخاطر على مصر، وبطبيعة الحال لم يكن هناك خلاف على أهمية الدور الأمريكى عامةً وفى هذه المواجهة خاصة، حيث إنه بدون دعمه المطلق لإسرائيل ما كان من الممكن أن تستمر فى تنفيذ سياستها الراهنة فى هذه المواجهة على هذا النحو الذى ينطوى على جرائم حرب أكيدة، وأشارت المناقشات إلى أن أى مواجهة لهذا الدور الأمريكى لابد أن تجرى على أساس من الحسابات الدقيقة، غير أنه تمت الإشارة إلى اضطراب السياسة الأمريكية أو لنقل عدم استقرارها بصفة عامة منذ ولاية جورج بوش الابن، وضُرب المثال فى هذا الصدد بالموقف من البرنامج النووى الإيرانى من الاتفاق مع إيران فى ولاية باراك أوباما إلى نقض الاتفاق فى رئاسة دونالد ترامب، كما تمت الإشارة إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية فى العام القادم، واحتمال عودة ترامب وما سيترتب على ذلك من آفاق لمزيد من الاضطراب، كذلك أثارت المناقشات حدود مسألة انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، خاصة أن المواجهة الراهنة تُظهر مدى انخراطها فى الإقليم، بالإضافة إلى أن السيد عمرو موسى قدم إضافة مهمة فى سياق الجدل حول أولويات السياسة الأمريكية ما بين آسيا والشرق الأوسط بأن السياسة الأمريكية لم تغادر الشرق الأوسط إلى آسيا، وإنما ربطته بها من خلال مشروع الطريق الجديد إلى الهند، وعندما عُقدت الندوة لم تكن مؤشرات التغير فى لهجة الخطاب السياسى الأمريكى تجاه إسرائيل قد تعددت كما هو الحال الآن، ولذلك لم تركز المناقشات على حدود التغيير فى السياسة الأمريكية تجاه المواجهة الحالية، والتى تحاول إبداء آراء قد تنطوى على انتقادات لممارسات إسرائيل دون أى تغيير حقيقى، بدليل الفيتو الأمريكى الأخير فى مجلس الأمن ضد مشروع القرار بوقف إطلاق النار، وصفقة ذخائر الدبابات التى لم تمر بالكونجرس.
أما الدور المصرى فقد حظى بالنصيب الأعظم من المناقشات، وقد ركزت المناقشات على المخاطر المُتَضَمَّنة فى المواجهة الحالية وأهمها بطبيعة الحال خطر تهجير سكان غزة إلى مصر وشبه جزيرة سيناء بالتحديد، سواء نبع هذا الخطر من الأفكار الصهيونية الخاصة بتهجير أهل غزة إلى خارجها اتساقًا مع المشروع الصهيونى الاستيطانى الإحلالى لفلسطين، أو من الممارسات العملية للجيش الإسرائيلى فى غزة الذى دعا سكانها فى البداية إلى النزوح للجنوب طلبًا للأمان، ثم هاجم الجنوب لاحقًا، ودفع إلى تكدس السكان فى رفح، ثم شرع فى مهاجمة رفح بما جعل غزة كلها غير آمنة، وطرح سيناريو الخروج منها باعتباره السيناريو الآمن الوحيد، وقد أُثيرت فى هذا السياق تساؤلات مهمة منها مثلًا هل هذا النوع من التفكير مرتبط بالحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية أم أنه ملمح للفكر الصهيونى بصفة عامة، ودون ادعاء معرفة كاملة بوزن القوى المتشددة التى تتبنى هذه الدعوة فى إسرائيل فمن المؤكد أن هذه القوى موجودة ومؤثرة وواصلة إلى أجهزة الإعلام الإسرائيلية ومؤسسات الدولة، وهذا كافٍ لجعل الخطر حقيقيًا بخلق أزمة إنسانية هائلة فى الجزء الملاصق لمصر من غزة بما يشكل لها إحراجًا شديدًا، وقد أثنى مشاركون على الدور المصرى فى هذا الصدد، وطرح آخرون أفكارًا محددة بخصوص ضرورة السعى لإنشاء مناطق آمنة فى غزة وتكثيف دخول كل أنواع المساعدات لها للتخفيف من حدة الأزمة، ولوحظ فى المناقشات أنه على الرغم من أن بعض الصهاينة الداعين إلى التهجير قد تحدثوا عن بلدان أخرى غير مصر وخارج المنطقة العربية يمكن أن تستقبل المُهَجَّرين من غزة إلا أنه من المسلم به أنه بالنظر إلى سياسات معظم هذه الدول غير المرحبة بالهجرة فإن إخراج أهل غزة من أرضهم سيقع على عاتق الدول المجاورة أساسًا، وبصفة خاصة مصر، ومن هنا فالخطر الذى يستوجب التحسب له، كما أُثيرت فى المناقشات ما إذا كانت العمليات العسكرية الإسرائيلية فى غزة تعتبر انتهاكًا لمعادلة السلام المصرية-الإسرائيلية، وإذا كان من الصعب تكييف هذه العمليات كانتهاك مباشر لنصوص المعاهدة فإنه مما لا شك فيه أنها تمثل انتهاكًا واضحًا لروحها.
كذلك تطرق نقاش الأخطار المترتبة على مصر من جراء المواجهة الحالية إلى موضوع تهديد الملاحة فى البحر الأحمر نتيجة أعمال الحوثيين، ومعروفة بطبيعة الحال أهمية الحفاظ على أمن البحر الأحمر بالنسبة لاستقرار الملاحة فى قناة السويس، وعندما عُقدت الندوة لم تكن الأمور قد تطورت إلى هذا الحد الذى وصل إلى تغيير عدد من السفن وجهته الملاحية بعيدًا عن قناة السويس، وقد قدره رئيس هيئتها آنذاك بنحو٥٠ سفينة، كذلك تطورت الأمور إلى مبادرة أمريكية لتكوين تحالف بحرى لمواجهة تهديد الحوثيين للملاحة فى البحر الأحمر، وعلى الرغم من الموقف من الحوثيين الذين انقلبوا على السلطة الشرعية فى اليمن فى ٢٠١٤ فإن الحذر واجب من مثل هذا التحالف ما لم يتم فى إطار مجلس الأمن، وبالتوازى مع البحث عن تسوية سياسية شاملة للقضية الفلسطينية، وأخيرًا فقد دارت نقاشات معمقة حول ضرورة أن تكون الأحداث الراهنة فرصة لإعادة صياغة الدور المصرى الذى تميز منذ البداية برؤية شاملة، غير أن الأحداث انطوت على تطورات تدعو بكل تأكيد إلى حوار جاد من أجل احتفاظ مصر بدورها الفاعل فى المنطقة وزيادة فاعليته.