العلاقة بين المثقف والسلطة في مصر.. قراءة في كتاب

رباب يحيى
الكتاب: المثقفون والسلطة في مصر
المؤلف: د. غالي شكري
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2017

“كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي” تلك المقولة الشهيرة للنازي جوبلز لا تعبر فحسب عن توجس النازيين من الثقافة، بل تجسد مخاوف كل المستبدين من الثقافة ومن تأثير المثقف ووعيه. مرتزقة الفكر هم من زينوا لجوبلز رجل إعلام هتلر أن يتحسس مسدسه كلما استمع لكلمة مثقف.
كتب كثير من المعاصرين عن العلاقة المعقدة بين المثقفين والسلطة، لكن تبقى كتابات إدوارد سعيد وغالى شكري في صدارة هذه الكتابات.
فإذا كان المثقف عند إدوارد سعيد هو الإنسان الذى يمارس النقد للدولة والمجتمع الذى يعيش فيه بهدف توجيهه نحو الأفضل، فإن غالي شكري يقسم المثقفين إلى ثلاث فئات: المثقف الداعية (السياسي)، والمثقف التقني (الخبير)، والمثقف الشامل (ذو الرؤية الشاملة لمشروع وطني مصري).
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة جديدة من كتاب “المثقفون والسلطة في مصر” للمفكر غالي شكري، يحتوي الكتاب بعد المقدمة والتمهيد على فصول عدة، كل فصل به شهادة لأحد المثقفين يعقبه فصل يعقب فيه المؤلف على هذه الشهادة.
يرصد غالي شكري تحولات المثقف المصري منذ عهد الحملة الفرنسية (في شخص عمر مكرم)، وصولاً إلى ما بعد ثورة يوليو، وكيف تحولت شخصية هذا المثقف واختلفت أوجه معرفته واختلاطه بالدولة. ثم انتقل ليتحدث عن يوليو ومثقفيها ملقياً الضوء على ما قبلها وما بعدها امتداداً إلى عهد السادات وما بعده.
يرصد الباحث مواقف مثقفين بارزين في واحدة من أشهر مراحل التحول الثقافي والسياسي في مصر، بدءاً من توفيق الحكيم الذي كتب “عودة الروح” فتحول من تأييد القومية زمن عبد الناصر إلى تأييد التطبيع مع الكيان الصهيوني زمن السادات بعد “معاهدة كامب ديفيد”.
وينقل شكري عن جان بول سارتر قوله، إن المثقف هو نتاج المجتمعات يشهد على أزماتها…، هو نتاج تاريخي لها ليقوم بالتصحيح الذاتي لأزماتها تماما كما يفرز الجسم الإنساني قوى المقاومة والمناعة. ولا يسع أي مجتمع أن يتبرم من مثقفيه ويرفضهم من دون أن يفقد حصانته ضد المرض.
ميلاد المثقف الداعية مع ولادة الدولة ذات المشروع التحديثي الخاص بها:
من المفارقات النادرة في التاريخ التي يرصدها المؤلف، أن يولد المثقف “الحديث” في مصر من خضم العلاقة المعقدة بين عسكري أجنبي ظل أُمياً حتى الأربعين من عمره هو محمد علي (1769 ـ 1849)، ونقيب أشراف مصري تعلم قليلاً في الأزهر، ولم يؤلف كتاباً واحداً ولم يشتغل بالفكر أو الكتابة، هو السيد عمر مكرم، فبالرغم من أن محمد علي لم يصبح والياً على مصر إلا بصدور الفرمان السلطاني من الأستانة، إلا أن الشعب المصري هو الذي اختاره بواسطة عمر مكرم وعلماء الأزهر، وهو أيضاً الذي أوصله إلى “القلعة” بالقوة وعزل خورشيد باشا، وهكذا استقل محمد علي بمصر وإن لم تستقل مصر بمحمد علي.
قاد المثقف ـ الداعية عمر مكرم النضال الشعبي المسلح لانتزاع الوالي خورشيد من قلعته، وكانت هذه المرة الأولى التي يقوم فيها “زعماء” للشعب بخلع الباشا العثماني، وتولية آخر مكانه باختيارهم، ولعل مأساة عمر مكرم أنه كان على قناعة كبرى بأن تنصيب محمد علي والياً على أكتاف الشعب المصري يعني ضمناً أن “السلطة” شركة بين الوالي والشعب. وكان محمد علي قد وقع بالفعل على “عقد” أو ميثاق يرتبط فيه بجملة المطالب التي رفضها من قبله خورشيد، وفي مقدمتها الرجوع إلى المصريين ممثلين في “العلماء” ومشاورتهم في الأمر، لكن مشروع محمد علي لم يرتبط أصلاً بالشعب المصري، لقد ارتبط بمصر فاحتاج إلى شرعيتها. ولم يفكر المثقف الداعية لحظة واحدة في الانفراد بالحكم اقتناعاً منه بأن الشرعية المصرية تستطيع الاستقلال ولا تستطيع الانفصال.
اللافت أن الأزهر آنذاك، كان مركز “الثورة” على الولاة والسلاطين والمحتلين جميعاً لمقاومة الإخلال بالعقد الاجتماعي إذا كانوا من الولاة، ولمقاومة اغتصاب السيادة إذا كانوا من المحتلين، فالأزهر كان هو الجامع والجامعة في وقت لم يكن فيه أي تعليم آخر. وهو الرحم التي ولدت المثقف التقني (الخبير)، والمثقف الداعية (السياسي)، والمثقف الشامل (المشروع).
المثقف المشروع:
إذا كان عمر مكرم هو الداعية ـ السياسي الأول في عصر محمد علي، فقد كان رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) هو المثقف الشامل الأول صاحب المشروع (نهضة مصر، بالاستقلال والديمقراطية والحداثة)، لكن كانت الإشكالية الأولى أمام الطهطاوي هي أن عماد هذه السلطة، الجيش، ليس مصرياً، ولأنه ليس المثقف ـ الداعية (السياسي)، فهو لم يفكر في أي تغيير للسلطة، وكانت الإشكالية الثانية هي أن القوام الاجتماعي الوطني لم يصل بعد إلى درجة من النضج والوعي بحيث تستطيع الرسالة أن تصل إلى مستحقيها القادرين على التغيير، لذلك جاء فكره في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” (1834) أقرب إلى الحلم الطوباوي، ثم كتابه “مباهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية” (1869) أقرب إلى البشارة أو النبوءة منها إلى برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية.
المثقف التقني (الخبير):
كان “علي مبارك” أحد أعضاء “بعثة الأنجال” إلى فرنسا في عام تخرجه 1844، التي كانت تضم حسين وحليم ابنا محمد علي، وأحمد وإسماعيل ولدا إبراهيم باشا، وحين عاد علي مبارك مع زملائه بعد ست سنوات، كان إبراهيم باشا قد توفي في عام 1848، وتولى عباس الأول حكم مصر، ومعنى ذلك أن “الخبير” علي مبارك قد “تكون” في عصر محمد علي وفي إطار مشروعه التحديثي، لكنه في اللحظة التي كان عليه أن يبدأ دور الخبير كان الزمن قد تغير، أعده محمد علي خبيراً في التحديث، لكنه أقبل في زمن السقوط، حيث لا جيش ولا تعليم ولا تحديث، ومع ذلك يبقى علي مبارك نفسه الذي يطمح للقرب من الحكام والأمان في العيش، فيعد ميزانية مجملها ألف كيس أي خمسة آلاف جنيه، وبهذا وصل علي مبارك بميزانية التعليم إلى 5% مما كانت عليه في عهد محمد علي وإبراهيم باشا، وقد عينه الخديو عباس نتيجة لذلك في لجنة امتحان المهندسين لتسريح غالبيتهم، فنجح مرة أخرى، وحصل على رتبة الأميرالاي لتخفيضه ميزانية التعليم.
في بداية عهد الخديوي سعيد، عاد الطهطاوي وزملاؤه جميعاً من المنفى، ولكن في ظل غياب “نهضة مصر” لم يكن هناك لصاحب المشروع الوطني مكان داخل الدولة أو خارجها، لذلك فقد ظل يؤلف ويترجم. أما المثقف التقني فإنه ظل خبيراً في الدولة المهزومة، ليس لديه مانع من المشاركة في المزاد العلني للمدرسة التي تخرج فيها وكان ناظراً لها طالما أن الأرباح ستمنحه “أمان العيش” وليصبح تاجراً بعد أن كان خبيراً.
في عهد الخديوي إسماعيل كان الخبير هو مثقف الزمان، لذلك استدعى إسماعيل فور توليه الحكم، علي مبارك، وألحقه بحاشيته في وظيفة “مهندس معية سنية”، وعهد إليه بتنظيم القاهرة على نمط حديث، ثم عينه ناظراً للقناطر الخيرية، ثم تتالت مهام “الخبير” علي مبارك: عضوية ديوان الأشغال، وكيل ديوان المدارس، ثم تفرغ علي مبارك للإشراف على ترتيبات الاحتفال العالمي بافتتاح قناة السويس، واستصدر مرسوماً بإنشاء دار الكتب القومية في عام 1869، وتشييد الأوبرا، ومجلة روضة المدارس، ودار العلوم، وظل علي مبارك داخل دائرة السلطة حتى حين اتخذت التبعية صيغتها السياسية المباشرة بإشراك وزيرين أوروبيين في الحكومة، وتولى علي مبارك فيها ثلاث وزارات مرة واحدة، هي الأوقاف والمعارف والأشغال، ومن الأقدار المأساوية أن هذه الوزارة كانت هي التي أسقطتها الثورة العرابية في العاشر من سبتمبر 1881، استجابة لمطالب الجيش والأمة.
ما أقسى حكم التاريخ، أو ما أسماه المؤلف بالأقدار المأساوية: أن تعزل الثورة الحكومة التي يشترك فيها علي مبارك، وأن يعود الرجل إلى الحكم في ظل هزيمة الثورة والاحتلال الأجنبي لمصر، وأن ينال مكافأة الخديوي على ذلك، وظل علي مبارك في دائرة السلطة إلى أواخر حياته عام 1893، وأصدر الخديو أوامره بتشييع جنازته رسمياً.
لم تكن الأقدار مأساوية لشخص “علي مبارك” فحسب، بل لنموذج المثقف الخبير في تاريخ النهضة المصرية وسقوطها.
انطلقت الثورة العرابية التي تجسدت لحظة ولادة الجيش الوطني، نحو الاستقلال والديمقراطية والمدنية، وقد تسلحت بحق المساواة أو العدالة (القانون)، وحق التغيير (الثورة)، وحق المعرفة (المنبر)، وأصبح المثقف الثوري: داعية سياسياً ونهضة بالحداثة وخبيراً تقنياً. وأصبح المثقف الجماعي: أحزاباً وهيئات ومنظمات ودستوراً وقوانين. تلك كانت الثورة الثانية ـ بعد ثورة 1805 التي استخلصت حق المصريين في اختيار الحاكم ـ وقد استهدفت استخلاص حق المصريين في السلطة.
في هذه المرحلة، طرأت على علاقة المثقف بالسلطة، وعلى علاقة السلطة بالتحديث، متغيرات أثرت على تكوين المثقف التقني (الخبير)، والمثقف الداعية (السياسي)، كان التغيير الأول، هو انتقال مركز الثورة من مؤسسة الأزهر إلى المؤسسة العسكرية، دون انفصال بين المؤسستين، غير أن الشرعية الدستورية، وهذا هو التغيير الثاني، قد أصبحت بنداً في جدول أعمال المركز الجديد للثورة، وبالرغم من بقاء المثقف التقني والمثقف الداعية، المثقف الجماعي والمثقف الشامل في إطار الدولة، فإن نمطاً جديداً قد وُلد، هو التغيير الثالث، وهو الذي دعاه المؤلف بالمثقف الهامشي (نموذج عبدالله النديم)، والهامشية تعني أنه الأكثر راديكالية في نشدان التغيير الاجتماعي بحيث لا تتسع له الدولة فينشط خارجها، ومصيره حينئذ أكثر مأساوية من غيره.
من المفارقات المحزنة التي يرصدها المؤلف، أن محمود سامي البارودي (1839 ـ 1904)، وعلي مبارك، قد تبادلا الموقع والموقع المضاد، فهما نموذج المثقف التقني، ولكن الأول كان الجركسي المرتبط بمشروع الثورة، والآخر هو الفلاح المصري الذي ارتبط بمشروع الدولة، كان البارودي وزير الجهادية في الحكومة التي أسقطت آخر وزارة قبل الثورة، وعلي مبارك بين أعضائها، لم يكن البارودي عربياً، لكنه اختار موقع الثورة في الشعر والحياة، فالعسكري غير العربي يتحول إلى شاعر عربي يفتتح عصر الإحياء في الشعر المصري الحديث، وأحد أركان الخبرة الجركسية يتحول إلى احد أركان الخبرة الثورية.
كان البارودي المثقف التقني في ظل الثورة، والعسكري المحترف، هو أول من فكر في قلب نظام الحكم إلى جمهورية مصرية مستقلة، كما يشهد له بذلك عرابي في مذكراته، وكثيرون من الحزب الوطني مثل عبدالله النديم والإمام محمد عبده يعترفون بأنهم مدينون بمساعدته لهم وولائه للحركة الوطنية، وقد أغراه الخديوي إسماعيل على أن يترك الحزب، وعرض عليه المال، لكنه رفض، وظل ينفق إيراده الضخم على الحزب ومنزله أشبه بقافلة حلت رحاها في الطريق، حتى هزيمة الثورة العرابية ونفي قادتها وهو منهم، وقد توفيت زوجته وابنته في المنفى، وقد عاد من المنفى في 12/9/1899، فاقداً للبصر إلى أن توفي عام 1904.
كان المثقف الداعية (السياسي) في الثورة العرابية شخصين، أحدهما الإمام محمد عبده، والآخر هو عبدالله النديم، الذي أضافت له المرحلة صفة المثقف الهامشي أيضاً (الوجه الراديكالي للدعوة من خارج جهاز الدولة).
كان محمد عبده الذي آمن بالمستبد العادل أقرب إلى “الدولة”، وعبدالله النديم أقرب إلى “الثورة”، فالأول أقرب إلى الأعيان، والآخر أقرب إلى الفلاحين، لذلك تباينت الغايات والوسائل والمصائر، ولا يخلو من الدلالة قول طه حسين أن الشيخ محمد عبده “هو محرر العقل في مصر، فلم يكن يحضر دروسه الأزهريون فقط، وإنما كان يأتي للاستماع إليه كثيراً من الأفندية من المحامين والقضاة والأطباء”، ومعنى ذلك أن المثقف الداعية قد توجه بكامل مواهبه وثقافته إلى “الإصلاح الديني”، وهي المهمة الجليلة الشأن في تغذية “الثورة” برافد التحديث القيمي الذي قد يصل في تجلياته القصوى إلى حد صياغة الوجدان العام، والضمير العام.
توفى محمد عبده عام 1905، مريضاً بالسرطان، وقد قاطع جنازته الرسميون وشيعها المواطنون من مثقفين وعلماء وناس عاديين، تلك كانت نهاية المثقف الداعية عند الدولة التي شيعت المثقف التقني علي مبارك بالإجلال الرسمي في مظاهره الفخيمة.
أما الداعية ـ الهامشي (عبدالله النديم)، فقد كان امتداداً للداعية الأول عمر مكرم، فلم يكن قائداً للثورة، لكنه كان خطيباً في جماهيرها، شاعراً بالعامية المصرية يناظر البارودي في الريادة، ولكن الضابط الكبير كان شاعر الإحياء الكلاسيكي، بينما كان النديم شاعر الإحياء الشعبي، وقد شارك النديم العسكريين الحكم بالإعدام دون أن يشاركهم يوماً سلطة الدولة، إنه شريك الجميع: فهو المثقف الداعية كمحمد عبده، وهو الشاعر كالبارودي، وهو الأرض والفلاح كأحمد عرابي، لكنه يختلف عن الجميع في الهامشية (الراديكالية من خارج السلطة)، إنه واسطة العقد دون أن يكون وسطاً أو وسيطاً، لأن الإسلام “الشعبي” والشعر “الشعبي” والصحافة “الشعبية” والخطابة “الشعبية” ربطت بينه وبين روح الثورة وجسد الوطن بالإبقاء على جذوة الهوية العربية الإسلامية لمصر. هكذا كان امتداداً لعمر مكرم، ولكنه الامتداد الذي لا يكتمل بغير أحمد عرابي والبارودي ومحمد عبده في إطار الجيش والأزهر.
ثم انتقل الكاتب ليتحدث عن ثورة يوليو ومثقفيها ملقياً الضوء على ما قبلها وما بعدها امتداداً إلى عهد السادات وما بعده.
حاور غالي شكري المثقفين ونقل هذا الحوار في صيغة اعتراف، يعقبه فصل للتعليق عليه، مع فصل ختامي للكتاب كله.
قسّم غالي باقي فصول الكتاب إلى:
المؤسسة العسكرية: وقد حاور منها خالد محي الدين، وعلي صبري
الشارع السياسي: وقد حاور منه فتحي رضوان
المطبخ الأيديولوجي: وقد حاور منه توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ولويس عوض
كانت السلطة الأجنبية المباشرة أو غير المباشرة، سداً كبيراً يواجه المثقف الداعية، أو المثقف المشروع الوطني المستقل، لكنها تدعم الحكم المحلي الذي يتلفع بثياب التقاليد والعادات والقيم والأعراف المضادة للنهضة والحداثة والعصرية، ويحكم منفرداً باحتكار السلطة وأدواتها، هذا هو الدور الذي تكرر في جميع مراحل النهضة وسقوطها، وليس إسقاط محمد علي، وإسقاط أحمد عرابي، وإجهاض ثورة 1919، ثم هزيمة 1967، إلا حلقات متتابعة من نتائج الاستراتيجية الغربية التي تكيفت مع اختلاف مراحل التاريخ والتطور الاجتماعي للمصريين (والعرب عموماً)، وتحالفت مع أنظمة الحكم الأوتوقراطية وعورات المجتمع المدني الوليد، واستغلت الآنات المزمنة والمستجدة داخل الوطنيين أنفسهم، لم يكن للاستراتيجية الغربية في أي وقت من أهداف سوى إخضاع الشعب والأمة ورهن إرادتها في ظل السيطرة الخارجية على ثوراتها وطموحاتها في المستقبل، وبقى مثقف النهضة يحارب على جبهتين: الداخلية (التخلف والاستبداد)، والخارجية (الهيمنة الأجنبية)، وكان يدري غالباً أن العمل من داخل جهاز الدولة، وربما القرب من السلطان، هو الطريق الطويل، لكنه الآمن، لتحديث النهضة. وكان يعي نادراً أن هذا الطريق مسدود، وأن الطريق الوعر ـ الهامشي ـ هو الطريق المفتوح. وهكذا تطابقت مصائر عمر مكرم ورفاعة الطهطاوي وأحمد عرابي والبارودي ومحمد عبده وعبدالله النديم، بدرجات متفاوتة في المنفى والموت الحزين، بينما علي مبارك قادته الثقافة التقنية (الخبرة) إلى “التنعم” بظل سلطة الدولة إلى النهاية، سواء أكان هذا الظل عنواناً للهوان أم مظهراً للمجد.
وقد صاغ ابن خلدون في مقدمته العلاقة بين أهل السيف وأهل القلم المأجورين صياغة عبقرية بقوله “إن كليهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره… وأهل الحكم في فترة تمهيد أمرهم يلجأون إلى أهل السيف لدعم حكمهم.. وعندما يستقر حكمهم تعظم الحاجة لأهل القلم لمباهاة الدول، ولكن عندما يتسرب الضعف إلى الدولة تعود الحاجة لأهل السيف من جديد وتقل الحاجة لأهل القلم، وعندئذ تقمع الدولة المثقف المستقل غير المأجور، ويغيب عنها أنها بذلك تفقد عقلها الرشيد، وتنساق وراء أخطائها.
وخلاصة القول أن العلاقة بين المثقف الحق ووجدان شعبه وضميره هي علاقة حتمية، وأن الخصام بين السلطة والمثقف الحق يؤدى لانفصال للجسد عن الروح. وأن المثقف المأجور يحفر هوة عميقة تحت أقدام السلطة تقع فيها لا محالة. وأن السلطة الرشيدة لا تقع في غواية قوتها. فحاجة السلطة إلى مثقفيها الصادقين هي نفسها حاجة الجسم إلى أوكسجين نقى تتجدد به الخلايا وتنمو. فالأذرع القوية وحدها لا تبنى وطنا قويا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *