كتب : أنور محمود زناتي
آن الأوان لننصت إلى ما قدّمه المؤرّخون الإسرائيليّون الجدد في أعمالهم التي فنّدت وفضحت أكاذيب الرّوايات الرّسميّة الصّهيونيّة عن نشأة “إسرائيل” والنّزاع الفلسطيني – “الإسرائيلي”.
المؤرّخون الإسرائيليّون الجدُد هم مجموعة من المؤرّخين والأكاديميّين الإسرائيليّين الذين بدأوا في أواخر الثمانينيّات بإعادة تقييم الرّوايات التّاريخيّة التّقليديّة المتعلّقة بنشأة “إسرائيل” والنّزاع الفلسطيني – “الإسرائيلي” وتفنيدها.
أسهمت كتابات المؤرّخين الإسرائيليّين الجدُد في تحطيم المسلّمات التّاريخيّة التي اعتمدتها الرّواية الصّهيونيّة
يُطلق عليهم أحيانًا اسم أصحاب “المدرسة التّصحيحيّة” أو “مدرسة ما بعد الصّهيونيّة”، ومن أبرز هؤلاء المؤرّخين الإسرائيليّين الجدُد: بيني موريس، وهو من الأوائل ومن أهمّ أعماله “مولد مشكلة اللّاجئين الفلسطينيّين”، وإيلان بابيه، وهو من أكثر المؤرّخين الجدُد انتقادًا للصّهيونيّة ومن أهمّ أعماله “التّطهير العِرقي في فلسطين”، وآفي شلايم، ومن أهمّ أعماله “الجدار الحديدي والعالم العربي”، وسيمحا فلابان، وأهمّ أعماله “ميلاد إسرائيل: الأساطير والحقائق”، وتوم سيغيف، ومن أهمّ أعماله “الإسرائيليّون الأوائل”، وشلومو ساند، ومن أهمّ أعماله “اختراع الشّعب اليهودي”.
وتأتي قوّة وخطورة أعمالهم في أنّها استندت – وفق معايير ومقاييس علميّة محايدة – إلى الوثائق الأرشيفيّة والمراسلات “الإسرائيليّة” وكذلك وثائق الأمم المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وشهادات عدد من الضبّاط والجنود “الإسرائيليّين”. وهذه الوثائق نُشِرت بعد مرور 40 عامًا على أحداث عام 1948، وهو ما أتاح إعادة فحص التّاريخ الرّسمي الذي قدّمته الحركة الصّهيونيّة ودولة “إسرائيل”.
أسهمت كتابات المؤرّخين الإسرائيليّين الجدُد في تحطيم المسلّمات التّاريخيّة التي اعتمدتها الرّواية الصّهيونيّة والإسرائيليّة، وفتحت أعمالهم النّقاش حول الرّواية التّاريخيّة السّائدة، وشجّعت على التفكير النّقدي بشأن جذور النّزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. كما لعبت دورًا في تغيير بعض مواقف الرّأي العام العالمي تجاه القضيّة الفلسطينيّة.
كشفت أعمالهم عن عمق مأساة الفلسطينيّين وأنّهم أصحاب الأرض الّذين تعرّضوا للتّطهير العرقي على يد عصابات يهوديّة
أعادت الأطروحات التي قدّمها المؤرّخون الجدُد النّظر في السّرديّة الصّهيونيّة الرّسميّة التي زعمت أنّ فلسطين كانت “أرضًا بلا شعب”، فأكّدوا أنّ فلسطين كانت مأهولة بالسّكان الفلسطينيّين الذين تمّ تجاهل وجودهم وحقوقهم تجاهلًا متعمّدًا؛ وعمل شلومو ساند وايلان بابيه وآفي شلايم وسيمحا فلابان وغيرهم على تفكيك الأساطير والحكايات التي صيغت لخلق تاريخ ووجود لشعب يهودي منافٍ للحقيقة.
كشفت أعمالهم عن عمق مأساة الفلسطينيّين، وأنّهم أصحاب الأرض الّذين تعرّضوا للتّطهير العرقي والإبادة والذّبح والتّهجير على يد عصابات يهوديّة مثل الهاغاناه والبالماخ وشتيرن وإرجون، وأكّدت أعمالهم أنّ الفلسطينيّين لم يغادروا قراهم ومدنهم خلال حرب 1948 بمحضِ إرادتهم أو بسبب دعوات القيادات العربيّة، كما زُعِم في الرّواية الصّهيونيّة التّقليديّة، بل هُجّروا قسرًا من خلال عمليّات عسكريّة مخطّط لها، من أهمّها الخطّة “داليت”، وبن “عامي–يواف”، و”حيرام–داني”، وأشاروا إلى أنّ الطّرد كان جزءًا من استراتيجيّة تهدف إلى إفراغ الأرض من سكّانها الفلسطينيّين وضمان أغلبيّة يهوديّة في الدّولة الجديدة. فيرى إيلان بابيه أنّ النّكبة كانت جزءًا من خطّة تطهير عرقي مُمَنهجة، حيث دُمِّر أكثر من 500 قريّة فلسطينيّة وشُرِّد مئات الآلاف من السكّان. ويؤكد بابيه أنّ هذه السّياسة استندت إلى خطط مثل “خطّة داليت” التي وضعتها القوّات الصّهيونيّة، وتضمّنت استراتيجيّات لطرد السكّان الفلسطينيّين بالقوّة.
كما سلّط المؤرّخون الجدُد الضوء على جميع المجازر التي ارتكبتها القوّات الصّهيونيّة ضد الفلسطينيّين، مثل مجازر دير ياسين وسعسع والطنطورة وصفصاف وكفر قاسم وبئر السبع ومئات غيرها، ويرى هؤلاء المؤرّخون أنّ هذه المجازر لم تكن أحداثًا استثنائيّة، بل كانت جزءًا من حملةٍ لإرهاب الفلسطينيّين ودفعهم إلى الهجرة.
كما أعاد المؤرخون الجدُد النّظر في تصوير “إسرائيل” ضحيّة ضعيفة، وأنّها كانت في موقف دفاعي في حرب 1948، فأشاروا إلى تفوّق القوّات الصّهيونيّة من حيث التّنظيم والتّسليح مقارنةً بالجيوش العربيّة؛ وقدّم آفي شلايم من خلال الوثائق تفاصيل حول تفوّق القدرات العسكريّة “الإسرائيليّة”، وكيف استُخدمت هذه القوّة في شنّ عمليّات هجوميّة لطرد الفلسطينيّين. ورصد بيني موريس بالأرقام والإحصاءات، في كتابه 1948 وما بعدها، ما لدى الطرفيْن من أسلحة وعتاد وجنود واستعدادات نفسيّة ومعنويّة وانتهى إلى أنّ عرب فلسطين كانوا غير مهيّئين للحرب في مرحلة ما قبل 1948.
أظهرت الوثائق التي استخدموها أنّ بعض القادة الصّهاينة كانوا يدعمون فكرة “التّطهير العرقي” لتحقيق أغلبيّة يهوديّة
كما تشير أعمالهم إلى أنّ إسرائيل رفضت عودة اللّاجئين الفلسطينيّين بعد الحرب، ليس بسبب “استحالة الأمر”، بل لأنّها أرادت الحفاظ على التفوّق الديموغرافي “السكّاني” اليهودي في الأراضي التي استولت عليها.
“أمام العرب مهمّة واحدة.. الفرار”
كما هدم هؤلاء المؤرّخون بطولات القادة العسكريّين الإسرائيليّين الذين نفّذوا مجازر ضد فلسطينيّين في شتّى أنحاء فلسطين. وأكّدوا مسؤولية الزّعماء الصّهاينة، وعلى رأسهم ديفيد بن غوريون ومن بعده مناحيم بيغن وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو عن طرد الفلسطينيّين.
وأظهرت الوثائق التي استخدمها المؤرّخون الجدُد، مثل إيلان بابيه وبيني موريس، أنّ بعض القادة الصّهاينة، مثل ديفيد بن غوريون، كانوا يدعمون فكرة “التّطهير العرقي” لتحقيق أغلبيّة يهوديّة في الأراضي المخصّصة للدّولة الإسرائيليّة. وأورد إيلان بابيه في مقدمة كتابه “التّطهير العرقي في فلسطين” مقولة بن غوريون مخاطبًا اللّجنة التّنفيذيّة للوكالة اليهوديّة في يونيو/حزيران 1938: “أنا أؤيّد التّرحيل القسري، ولا أرى فيه شيئًا غير أخلاقي”. ويؤكّد المؤرخون الإسرائيليّون الجدُد أنّ بن غوريون هو المهجِّر الأكبر؛ لأنه هو الذي أصدر أوامره إلى إيغال آلون وإسحاق رابين في عمليّة اللّد والرّملة قائلًا: “أُطردوهم”.
كما نقل بيني موريس العبارة الشهيرة التي أطلقها بن غوريون في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1948 في اجتماعه مع أحد أعضاء لجنة التّرحيل، ونصّها “أمام العرب مهمة واحدة يقومون بها… الفرار”!.
ما أشبه اللّيلة بالبارحة
والآن، ها نحن نرى نداءات نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وغيرهم من مجرمي الحرب تنادي بضرورة اقتلاع أصحاب الأرض ونفيهم وطردهم والدّعوة إلى تطبيق “خطّة الجنرالات” التي تقوم على فكرة الإبادة والطّرد والحصار ومنع دخول الإمدادات والمساعدات الغذائيّة والماء والوقود، واستخدام التجويع وسيلة ضغط للتّهجير.
نرى حاليًا تطبيقات الأطروحات التي فنّدوها في ظلّ ما يحدث من مجازر وإبادة جماعيّة في حقّ الشّعب الفلسطيني
وقد تعرّض المؤرّخون الجدُد لانتقاداتٍ واسعة من قبل المؤسّسة الأكاديميّة والسّياسيّة التّقليديّة، حيث وُصِفوا بأنّهم “يهود يكرهون أنفسهم”، ويرغبون في هدم شرعيّة “الدّولة”، وأُطلق عليهم وصف “الخَوَنَة” و”المعادين للصّهيونيّة”. وسَعى بعض الجامعات والدّوائر البحثيّة الإسرائيليّة إلى طرد بعض الأكاديميّين المنتمين للمدرسة التّاريخيّة الجديدة وإحالة بعضهم الآخر للتّحقيق.
وفي العالم العربي انقسم الرأي بشأنهم، فقد رحّب بعض المثقّفين العرب بأعمالهم وعدّوها دعمًا وتأكيدًا لصدق الرّواية الفلسطينيّة، لكن البعض شكّك في نواياهم أو مدى تأثيرهم، واعتبر البعض أعمالهم هي مجرّد أعمال للتخلّص من عقدة الذّنب وإيجاد مخرج للمأزق الأخلاقي الذي تجد إسرائيل نفسها فيه… وبغية حماية المشروع الصهيوني وتطويره وجعله أكثر مقبوليّة للمجتمع الدّولي ولكي تكون إسرائيل في منأى عن المساءلة بالنسبة إلى الأجيال الإسرائيليّة القادمة.
التاريخ يُعيد نفسه على الهواء مباشرة
تبرز أهمّية الكتابة عن أعمال المؤرّخين الجدُد في الوقت الحالي لكونها تؤكّد صدق الأطروحات التي فنّدوها ونرى تطبيقاتها حاليًّا في ظلّ ما يحدث من مجازر وإبادة جماعيّة تُرتكب في حقّ الشّعب الفلسطيني، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه وعلى الهواء مباشرة.
(نقلا عن “عروبة 22”)