جزيرة “الوراق” هي واحدة من الجواهر الطبيعيّة التي يحتضنها مجرى النيل في مصر والتي أصبحت آمنة من تخريب الفيضانات منذ بناء سدّ أسوان في بداية القرن الماضي، ثم سدّ مصر العالي في ستينيات القرن الماضي، والذي روّض النيل وفيضاناته ودورات جفافه بشكلٍ كامل. وفي عام 1998، أصبحت الجزيرة محميّة طبيعيّة، وتم تحويلها للمنفعة العامّة في مايو/أيار عام 2001، وألغى القضاء صفة المنفعة العامّة في يوليو/تموز من العام عينه، مما مكّن قاطنيها من الاحتفاظ بملكيّاتهم محصّنة قانونيًا.
تمهيدًا لبناء مشروع سياحي وعمراني في جزيرة “الوراق”، ألغت الحكومة صفة المحميّة الطبيعيّة عنها عام 2017، وصدر قرار رئاسي بالتطوير. وبدأت حملات الإزالة لمئات المنازل غير المرخّصة، وهو أمر لا يمكن لوم الحكومة عليه خاصة أن البناء غير المرخّص تمّ على أرض الدولة.
لكن الأزمة الحقيقيّة تتعلّق بالمحاولات المستميتة لاستكمال إخلاء الجزيرة من خلال إزاحة أصحاب العقود المسجّلة للأراضي والمباني والتي يعود بعضها لأكثر من قرنٍ من الزمن، حيث ترى الحكومة أنّ تنفيذ المشروع يتطلّب إخلاء الجزيرة النيليّة كلّيًا، من دون النّظر لحياة وحقوق قاطنيها القانونيّة والمسجّلة.
مشروع سياحي وعمراني عالمي ونمط عدواني لإزاحة السكان الأصليّين!
هذا النمط البيروقراطي الجافّ لا يبتغي حلًا إنسانيًا وعادلًا، بقدر ما هو نوع من الاستعلاء السلطوي على المواطنين وحقوقهم الإنسانيّة، فتحوّلت الجزيرة إلى موضوعٍ للنزاع والصراع بين المواطنين الذين يعيشون في الجزيرة، والحكومة التي ترغب في إقامة ذلك المشروع فيها.
المشروع يبدو مُربحًا من المنظور الاقتصادي الصّرف شرط أن يكون مصريًّا خالصًا وصديقًا للبيئة
وطرحت الحكومة مخطّطها لتحويل الجزيرة بمساحتها البالغة أكثر من 1300 فدّان، والمنطقة المطلّة عليها إلى مرفقٍ سياحي عالمي وعقاري فاخر. وفي عام 2018، أصدر مجلس الوزراء القرار الرقم 20 بإنشاء مشروع عمراني جديد على أرض الجزيرة يضم 68 برجًا سكنيًّا. وفي عام 2022، أعلنت الحكومة عن تغيير اسم الجزيرة إلى مدينة “حورس”.
بغضّ النظر عن استسهال انتهاك البيئة الزراعيّة والنهريّة الطبيعيّة من أجل مشروعات سكنيّة بدلًا من التوجّه للصحراء المترامية الأطراف، فإنّ المشروع المخطّط على الصعيد الاقتصادي يبدو مُربحًا من المنظور الاقتصادي الصّرف، شرط أن يكون المشروع مصريًّا خالصًا وصديقًا للبيئة، وليس أحد البيوع اللّعينة لأرض الوطن إلى الأجانب والذي يخلق نزيفًا طويل الأجل للدولار والعملات الحرّة من مصر إلى الخارج في صورة تحويلات أرباح ذلك المشروع العقاري السياحي لصالح الملّاك الأجانب.
وتَختصر قضيّة جزيرة “الوراق” نمط العلاقة بين الشعب والحكومة، بحيث تتجبّر الحكومة بالسلطة السياديّة ولا تعطي للعقل والموضوعيّة فسحة لمعالجة القضيّة، بينما يواجه الشعب الحكومة لحماية أبسط حقوقه الإنسانيّة في السكن والأرض ومصادر الرزق.
وعلى الرّغم من أنّ هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تستحوذ فعليًا في الوقت الراهن على ثلاثة أرباع أرض الجزيرة بعد تسوية الأوضاع مع قسم من مواطني الجزيرة بالتراضي أو تحت الضغوط، ويمكنها إقامة مشروعها على ذلك القسم، إلا أنّ المشروع المخطّط للجزيرة لا يحتمل وفقًا للحكومة والجهة التي ترغب في إقامة المشروع، وجود مواطنين من الفقراء أو متوسّطي الدخل بنمط حياتهم القائم على الزراعة وتربية الماشية والصيد، في جوار مباشر للمشروع السياحي العالمي والعقاري الفاخر المزمع إنشاؤه في الجزيرة.
الدّستور والقانون يحميان ملّاك الأراضي والمباني فلماذا التجبّر الحكومي؟!
تتمتّع الجزيرة بحماية قانونيّة متمثّلة في حكم القضاء الإداري عام 2001 بعدم دخولها في المنفعة العامّة، فلا يمكن نزع الملكيّات فيها تحت هذا المبرّر، وأي إزاحة قسريّة للمواطنين الموجودين فيها سيُعدّ تهجيرًا قسريًّا يجرّمه الدستور المصري الذي ينص في المادة 63 على “حظر التهجير القسري والتعسّفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم”. كما ينصّ في المادة 62 على أنه “لا يجوز إبعاد أي مواطن عن إقليم الدولة، أو حظر الإقامة في جهة معيّنة، إلا بأمر قضائي مسبّب ولمدّة محدّدة (موقتة). وتلك الحماية الدستوريّة والقانونيّة تجعل التجبّر الحكومي على أصحاب الأراضي والمباني في الجزيرة أمرًا غريبًا وغير منطقي، وتوجد له بدائل إنسانية وعادلة ومفيدة للطرفيْن.
الحلّ الإنساني العادل أكثر جدوى وإفادة للمشروع الحكومي
لو تخلّت الحكومة عن منطق التجبّر وفتحت مجالًا لحلٍّ إنساني وعادل، يمكنها أن تنفّذ المشروع السياحي والمعماري العالمي في الجزيرة، شرط أن يكون مصريًّا خالصًا في المنطقة التي استحوذت عليها هيئة المجتمعات العمرانيّة الجديدة، أي ثلاثة أرباع الجزيرة، مع وضع مخطّطٍ حضاري وإنساني لتطوير القسم الباقي من الجزيرة لصالح مالكيه من المواطنين من خلال نمطٍ معماري بسيط وراقٍ يستوعب المواطنين وما يقومون بتربيته من مواشٍ في منازل تتمتّع بالجمال والأصالة، وتتّسم بأنها عمليّة وملائمة لأغراض السكن وتربية الماشية والدواجن.
حلّ قضية جزيرة “الوراق” لا يكون بالتجبّر والحصار والتهديد وتقييد الحريّات
ويتضمّن هذا التطوير أيضًا بناء مرسى أو “ميناء” صغير وجميل وعملي لمراكب الصيد والنّقل. كما يتضمّن التطوير المطلوب رعاية وتمويل مشروعات صغيرة تؤدي لتحويل قرية المزارعين والصيّادين إلى منصة لإمداد المشروع السياحي بالخضر والفاكهة الطازجة والصحيّة والألبان ومنتجاتها واللحوم الطازجة والدجاج والبيض العضوي والأسماك النيليّة، بحيث يتكامل طرفا الجزيرة من مزارعين وصيّادين ومربّي الماشية والدّواجن من جهة، والمشروع السياحي وقاطنيه من جهة أخرى. بل إنّ القسم الخاصّ بالمواطنين من المزارعين والصيّادين ومربّي الماشية والدّواجن، يمكن أن يتحوّل إلى مزار سياحي لقاطني المشروع السياحي والمتردّدين عليه للحصول على خدمات المطاعم الريفيّة المعتمِدة على مخابز ريفيّة ومأكولات تقليديّة مصريّة يتم إعدادها فيها.
إذا كان هناك من يريد حلّ قضية جزيرة “الوراق” والقضايا المشابهة لها، فإنّ ذلك لا يكون بالتجبّر والحصار والتهديد وتقييد الحريّات والقضايا الأمنية وإيقاف خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحّي الضروريّة للحياة، بل بتفهّم مطالب المواطنين وضرورات حياتهم واحترام ارتباطهم بالبيئة الطبيعيّة التي نشأوا فيها وتُشكَل نمط حياتهم وأرزاقهم بالتوافق مع طبيعتها ومواردها.
نقلا عن عروبة 22