عماد حمدي
تحت سِتر دخان الأحداث المشتعلة في فلسطين ولبنان ومؤخرًا سوريا، يتخفى شبح ما يجري في السودان، فالعالم يدير وجهه بعيدًا عن واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية. النتائج تدق نواقيس الخطر والأرقام مُفزعة تعصف بالضمير: 150 ألف قتيل، 10 ملايين مشرّد، و16 مليونًا مُهددون بالمجاعة، في مأساة تبدو بلا أفق لنهاية قريبة.
العاصمة الخرطوم، ومعظم مدن السودان التي تجتاحها المعارك، تحولت إلى مناطق أشباح، ركامٌ على ركام، وجثث متحللة تُترك في العراء، بلا كفن ولا دفن. الأحياء المُدمَرة تعكس واقعًا مريرًا، بينما الملايين من السودانيين يُطاردهم شبح المجاعة. المهجّرون يعيشون في مخيمات بائسة لا آدمية، والمقاتلون المرتزقة بين صفوف ميليشيات الدعم السريع يحوّلون البلاد إلى مسرح لجرائم القتل والنهب والاغتصاب الجماعي.
الكارثة لا تقتصر على جرائم العنف بالقتل والتشريد. مقدرات السودان كلها وسيادته الوطنية تنسحق تحت سنابك خيول المتحاربين. النفط والذهب والموانئ وموارد الثروة الأخرى تذهب طواعيةً لقوى الاستعمار الجديد مقابل تمويل القتال. حتى المزارع والحقول التي تنتج غذاء السودانيين، طالتها نيران الحرب العبثية، ما يعنى أن شبح مجاعة عشرة ملايين سوداني يلوح في الأفق حسب تقديرات الأمم المتحدة.
ما يجرى في السودان يفوق بكثير مآسي سوريا وليبيا الإنسانية ولا يقل عنهما في خطورته السياسية. إنها حرب إبادة بطيئة تستهدف إعادة فك وتركيب الخريطة، بينما العرب يغضون الطرف عن جرحهم النازف الذي يوشك أن يتقيّح ويصيب باقي الجسد بالغرغرينا
السودان اليوم هو مفتاح لصراعات أكبر. البحر الأحمر، شريان الملاحة العالمي ومن خلفه القرن الأفريقي، أصبح ملعبًا للتنافس الدولي. روسيا وإيران وتركيا وحتى إسرائيل تتطلع كلها إلى تأسيس قواعد عسكرية هناك، بينما مصر تراقب بـ “قلق بالغ” ما يحدث في حديقتها الخلفية.
تعثر الملاحة عبر باب المندب، وتأثير ذلك على قناة السويس، موردنا الاقتصادي المهم، لا يقتصر على ما يجرى في اليمن وحده، بل ما يحدث في كل منطقة القرن الإفريقي وفى قلبها السودان، إلى جانب التوترات المستجدة بين إثيوبيا والصومال، وهذا حديث آخر.
منذ استقلاله عام 1956، والسودان يعاني من لعنة الانقلابات والصراعات. انفصال الجنوب في 2011 فتح الباب على مصراعيه أمام نزعات الانفصال الأخرى. دارفور، النيل الأزرق، جنوب كردفان.. كلها مرشحة للانفصال. المؤشرات كلها تشي بأن السودان يتجه بخطى متسارعة نحو التقسيم. قد تكون الخطوة الأخيرة المتمثلة في إعلان ميليشيات «الدعم السريع» تشكيل حكومة في الأراضي التي يسيطرون عليها أبرز تلك المؤشرات، لكنها ليست الوحيدة. فالخطر يتجاوز هذا الإعلان إلى سلسلة طويلة من الإشارات والسياسات التي تكرس لواقع التقسيم، بعضها واضح، وبعضها خفي، لكن كله يمضي في الاتجاه نفسه.
ما يجرى على المسرح السوداني اليوم هو تجسيد لسيناريو قديم لمؤلفه المستشرق اليهودي برنارد لويس فكرته الرئيسية تقسيم العالم العربي. مات لويس، لكن أفكاره تعيش وتتمدد، وتنخر في جسد الدول العربية الواحدة تلو الأخرى.
أول ملامح النزعات الانفصالية كان سيادة الخطاب العنصري والجهوي في خطاب طرفي الصراع. أصبح كل طرف يحدد مناطق وقبائل بوصفها الحاضنة الاجتماعية للآخر، ويعتبرها بالتبعية أهدافًا مشروعة للقصف والاستهداف. وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للمتمردين تعج برسائل تهديد لسكان وسط وشمال السودان باعتبارهم مسئولين عن مظالم تاريخية. في المقابل، يتكرر تصنيف مناطق وقبائل بعينها كحاضنة اجتماعية لـ«الدعم السريع» على لسان شخصيات محسوبة على الجيش تمهيدا لمحاربتها.
هذا التصعيد لم يقتصر على الخطاب، بل تحول إلى سياسات وممارسات على الأرض، مثل تصنيف «الوجوه الغريبة» في بعض الولايات، الذي أدى إلى ممارسات تمييزية خطيرة. ثم جاءت قرارات أخرى كتغيير العملة السودانية لتعقد الأمور أكثر. الحكومة التي تتخذ من بورتسودان مقرًا لها فرضت تغيير العملة في مناطق سيطرتها فقط، ما أدى إلى إخراج مناطق بأكملها، مثل دارفور وأجزاء من كردفان والخرطوم، من النظام الاقتصادي الرسمي.
تقسيم التعليم ملمح انفصالي آخر لا يقل في خطورته عما يحدث بقوة السلاح. امتحانات الشهادة الثانوية تُعقد فقط في مناطق سيطرة الجيش، بينما مئات الآلاف من الطلاب في مناطق أخرى يواجهون مصيرًا مجهولًا، إما بسبب منع ميليشيات «الدعم السريع» لهم من الحركة، أو بسبب صعوبات أمنية ومادية تحول دون إجراء الامتحانات لعشرات الآلاف من الطلاب الذين باتوا خارج النظام التعليمي الرسمي.
من ينظر إلى هذا المشهد من الخارج قد يتصور أن هناك حلًا ممكنًا لجمع الطلاب في مراكز امتحانات محايدة، أو السماح بعبور العملة الجديدة بين المناطق المختلفة. لكن هذه التصورات المنطقية تصطدم بواقع سوداني معقد لا تحكمه قواعد المنطق.
هذه الديناميات تعمق الانقسام بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية، الإثنية والقبلية، وأخيرًا الجهوية والمناطقية، ومع إعلان الميليشيات المسلحة تشكيل حكومة في المناطق التي تسيطر عليها، سيصبح السودان عمليًا أمام حكومتين منفصلتين جغرافيًا وعسكريًا وإداريًا، وستحظى كل منهما باعتراف دولي وإقليمي وفقًا لمصالح اللاعبين الخارجيين وممولي الصراع ومحركيه.
السودان اليوم ليس فقط على أول طريق التقسيم، بل على مشارف مأساة إنسانية عميقة، قد تكون نتائجها أبعد وأخطر مما يتخيله أي طرف في هذا الصراع العبثي.
هذه حرب بلا سقف أخلاقي أو إنساني. المواطن فيها ليس سوى أداة يستخدمها طرفا الصراع لتسجيل النقاط ضد بعضهما البعض، دون أدنى اعتبار لمعاناته. هي حرب تُعرّى كل القيم. حرب «قذرة» يتسابق فيها المتحاربون لإبراز بشاعة الآخر، دون أن يلتفت أحد لمعاناة الوطن الذي يتهاوى تحت أقدام الغزاة الجدد.
إذا كانت المأساة السودانية تتخفى كشبح تحت دخان الأحداث في الشرق الأوسط، فقريبا سينقشع ذلك الدخان ويظهر الوحش بكامل هيئته المخيفة يطرق أبواب الجيران. تقسيم السودان ليس مجرد كارثة محلية، بل عدوى خطيرة قد تمتد إلى العالم العربي بأسره.
«سودَنة» العالم العربي ليست مجرّد احتمال، بل خطر داهم يدق ناقوس الخطر قبل تحويل المنطقة العربية إلى مجرد فسيفساء من الدويلات المتناحرة.
بتعبير مزعج في صراحته، فإن سياسة النأي بالنفس أو جهود إطفاء الحرائق ليست قادرة على احتواء التهديدات المتنامية في مجالنا الحيوي، ناهيك عن خطوط الدفاع الأولى لأمننا القومي. السلطة في مصر إن كانت تدرك خطورة ما يجرى على حدودنا في كافة الاتجاهات الاستراتيجية كتوطئة للتفرغ لأكبر جيش عربي، لا ينبغي لها أن تلتزم سياسة الصمت الاستراتيجي خوفا من إغضاب الحلفاء والأصدقاء الفاعلين هنا وهناك.. فالأصل أنه “يا روح ما بعدك روح”!