بقلم : محمود عبد الحميد
هل مازال يمكن أن يمثل ( طوفان الأقصى ) بكل تفاعلاته وتداعياته على كل المستويات ، الفرصة التاريخية لتنادى وتلاقى كل أطياف الباحثين والمفكرين والمهتمين والمهمومين فى أمتنا ، للتصدى لحوار موضوعى جاد فاعل وملتزم حول إستعادة مشروع أمتنا الحضارى فى التحرر والنهوض ، وإعادة صياغته وبناؤه بعد كل ما مر به من مراحل ومحاولات وانتكاسات وهزائم عبر كل هذه القرون ، ومن ثم بيان الطريق لإستعادة زمام المبادرة والمبادأة واستجلاء الرؤية والمنهج لتجاوز كل معاناة ومآسى وويلات ما نعانيه فى كل المجالات فى كل ربوع وجنبات أمتنا من جهل وتخلف وتجزئة تشظى وتشرزم وتبعية واستبداد وفساد ؟
ألم يمثل غياب القوى الفاعلة فى أمتنا عن المشهد والتفاعل والمشاركة جبرا أو قهرا أو اختيار ، يأسا أو عبثا أو خوفا ، أو فقدان للآمال أو البواعث أو الدوافع ، أو إستكانة واستسلام لكل ظلمات وضغوطات الواقع والمواقع الحياتية والمعيشية ، ألم يمثل كل ذلك فرصة مواتية سانحة تمكن منها المشروع المعادى من تحقيق انتصارات متوالية فى مختلف المجالات وعلى كل الأصعدة ، بما قد ينذر أو يهدد بالهزيمة الساحقة لأمتنا بحيث لم تعد لها قائمة ، جزء من تاريخ بعيد مضى وانقضى كغيرها من حضارات منتهية سابقة ؟! ولما لا ومالذى يمنع إن استمرت الأمور على ما كانت عليه ؟
ألم يستنفر العدو ويستفز كل إمكانات وقيادات المنظومة المعادية ؟ وقد أعلنها صراحة ومنذ البداية وعلى الملأ ، أنه ( صراع مع كل حضارة الغرب وكل ما تمثله ) ، ألا يحسم هذا الإعلان الصريح بهذا التصريح ، كل ما يمكن من جدل حول حقيقة ما تخوض أمتنا من صراع منذ أمد بعيد ، وأنه لم يعد يجدينا شيئا كل محاولات التوفيق والتلفيق ، أو تسمية الصراع بغير إسمه ، أو التهرب من مواجهته ، أو الإختباء خلف معارك وجبهات وهمية خائبة .
ألم ينكشف بجلاء أن كل مراحل الإستعمار ، وما أفرزته من مؤامرات مستمرة إستجبنا لها ، وما خلفه وخلقه فينا حيث قابليتنا لما قبلنا، ومن زرع هذا الكيان الصهيونى الإستيطانى فى القلب من أمتنا ، إنما يستهدف دائما وبالأساس وجود أمتنا فى ذاته والإجهاز على ما يمكن أن يتبقى من حضارتنا وعدم إمكانية النهوض مجددا أو حتى مجرد إحتماليته ؟
ألا يجب الإعتراف بأن كل محاولاتنا كانت قاصرة وقد جانبها الصواب ، وأنه كان يعوزها الأساس وغاب عنها الوفاق أو الإتفاق ، وأن أسس مشروع أمتنا الحضارى ما لم تكن حاضرة تظل كل محاولاتنا قاصرة ؟
ألم يعد واضحا أن كل ما تكرس فى حياتنا وفى عقولنا ، وما نتج عبر قرون طويلة من ميراث هائل مخيف من الجهل والتخلف والجمود ، ثم التجزئة والتشظى والتشرزم ، والتبعية والفساد والإستبداد ، كما أن إغلاق منافذ الإجتهاد والتهرب من أبواب الجهاد ، مما أعطب العقل العربى وعطل طريقة التفكير ،فإما تقديس تجارب ونماذج الماضى والترديد والتكرار مشدود إليها هروبا من الواقع وتحديات المستقبل المجهول ، وإما مشدوها بتجارب ونماذج حضارة الغرب وحداثته متدنيا أمامها أملا فى إستنساخها كما لو كانت النموذج الأوحد للحضارة رغم كل ما يكتنفها منذ نشأتها من إستغلال وسقوط ، فإما إستدعاء دون فرز وإما إستجداء أو إستنساخ واستحداث دون حرص ،أو ليس هذا هو الناتج المحزن المخزى من تلك المسوخ المشوهة والتدنى واحتقار الذات وانعدام الكفاءات فى مختلف المجالات ،ثم هذا الإنسحاق الفكرى والثقافى والقيمى والأخلاقى…
إن عدم الإلتفاف حول مائدة مثل هكذا حوار جرم لا تحتمله أمتنا ، ويتركنا فريسة للشطط والضياع بين مختلف الأهواء والأجواء فى حال غير مسبوق من السيولة والميوعة واللهاث خلف تفاهات لا نهاية لها ولا نوقف فى مناخ من إنحدار القيم والتدنى وسقوط الأخلاق .
إن كتابات مفكرينا .وإنتاجهم العظيم إنما هى تئن جميعا حبيسة أغلفتها والأرفف والأدراج تستصرخنا أن نعيد القراءة ونمارس الإضافة والتحديث والمعاصرة والتطوير والإجتهاد والخلق والإبداع .
إن كل مفكرينا فى كل زوايا الوطن وجميع أنحاؤه وأرجاؤه ، وكل الباحثين وكل المهتمين والمهمومين ، فى كل الفروع والجموع والمجالات وكل التخصصات ، مدعوون جميعا بكل الإلحاح والإخلاص ، أن يتصدوا الأن لمثل هكذا معركة مصيرية كبرى للإنخراط فى كل قضايا هذا الحوار وصولا لبناء رؤية شاملة جامعة ومنهج متكامل للخروج بأمتنا من براثن الجهل والتخلف والتجزئة واستعادة وبناء مشروع أمتنا الحضارى وإنجاز التحرر والنهوض .
إن الشباب فى بلادنا تتنازعهم الأهواء وأسوأ الأجواء بلا هوية ، ياطالما سمعوا عن انتصارات وبطولات لم يعاصروا منها شيئا ،وضجيج لا ينتهى حول حضارة لم يمتد فيهم منها شيئا ، وواقع معاش معاصر ليس هناك منه أسوأ ، ومستقبل أسود قاتم لا تبدو له صورة ممكنة أو أى ملامح ،ولا أية خطوة على أى طريق يمكنه أن يصل بهم لاتجاه نافع ، كل هذا الشباب فى بلادنا وكل هذه الأجيال فى أمتنا ، ما الذى أمامهم ، ما الذى يمتلكونه فى أياديهم ، وما الذى محشوة به عقولهم ، وكيف يمكنهم مواجهة مصائرهم وإدارة حياتهم والإبداع فى التصدى لحل مشكلاتهم وصناعة مستقبلهم ، وكل ذلك بلا هوية ودونما رؤية ، فإلى هذا الحد يتحدد قدر المسؤولية ، فإن هذا الحوار مطالب بإنجاز ما يمكن إعتباره ( دليل عمل ) يفتح باب الأمل ويتوجه إلى نخبة شابة جديدة علها تمثل من جديد طليعة واعية قادرة لقيادة أمتنا العظيمة تجاه مشروعها الحضارى فى التحرر والنهوض .
نقلا عن موقع المؤتمر الناصري