د. محمد السعيد إدريس

يوما بعد يوم، ومنذ سقوط نظام الرئيس السورى السابق بشار الأسد، يتكشف الوزن الحقيقى، شديد القوة والأهمية، لسوريا فى معادلة «توازن القوى الإقليمى» بالشرق الأوسط. للوهلة الأولى وعقب سقوط النظام تصور كثيرون، خاصة إخواننا داخل سوريا، أن «الكابوس» قد سقط، وأن سوريا مقبلة على اغتراف الرخاء والسلام دون جهد أو عناء، لكن ما إن تكشف الغطاء حتى تدافعت التعقيدات والتحديات التى بات فى مقدورها أن تعصف بأحلام وتوقعات «الرخاء والسلام» وسط أمواج متلاحقة من الأطماع والصراعات، خاصة منها الإقليمية التى تهدف كل منها إلى إعادة هندسة النظام الإقليمى بالشرق الأوسط، ناهيك عن الصراعات والتنافسات الداخلية بين قوى الحكم الجديدة وبين من يعتبرون أنفسهم «قوى مهمشة» فى ظل حكم جماعة إسلامية جهادية متعددة الأجناس والأعراق سبق أن تحالفت تحت مسمى «جبهة النصرة» التى انفصلت وزعيمها أبو محمد الجولانى (أحمد الشرع) عن تنظيم «القاعدة» الجهادى، حسب توصيف كل طرف من الأطراف لهذا التنظيم الذى أصبح يحمل اسم «هيئة تحرير الشام» الذى قاد عملية إسقاط نظام بشار الأسد، الأمر الذى ينبئ أيضاً باحتمالات شبه مؤكدة لصراعات داخلية فى سوريا فى محاولة لفرض إجابة محددة لسؤال: من سيحكم سوريا؟

ما يهمنا هنا هو البحث فى مستقبل ومآلات أى خرائط سوف تفرض نفسها ضمن عملية إعادة الهندسة الإقليمية فى مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، والتى ستتخذ من «سوريا الجديدة» منطلقاً لتحديد معالم ذلك المستقبل مع الأخذ فى الاعتبار أن عملية إعادة الهندسة هذه لا يمكن أن تتم بمعزل عما سيدور فى الداخل السورى من صراعات وتفاعلات، ولا بمعزل عن أدوار القوى الدولية وبالتحديد الولايات المتحدة وروسيا.

بتبسيط شديد تعاملت مراكز الفكر الغربية، على وجه الخصوص، مع الحدث السورى على أنه «سيعيد تشكيل الشرق الأوسط»، دون تحديد لما سقط فى سوريا.. هل ما سقط هو فقط النظام الحاكم ، أم أن ما سقط هو سوريا؟ الأمران مختلفان تماماً. التدقيق فى الحدث يقول إن ما سقط هو أكثر من نظام حكم، إذ ربما يمتد مسلسل السقوط، أو بالأحرى «الإسقاط العمدى» لما كان يسمى تاريخياً، على الأقل فى الثقافة التاريخية المصرية بـ«بر الشام» الذى كان يمثل مع شقيقه «بر مصر» جناحى الأمة ومرتكز نهوضها، إلى ما يتجاوز نظام الحكم السورى أو حتى الدولة السورية إلى «الشام التاريخى»، فى ظل ما يجرى الترويج له فى الإعلام «العبرى» من تجهيز لتنفيذ مشروع «ممر داوود» الذى يؤسس لمشروع إسرائيل الكبرى من نهر الفرات شرقاً إلى نهر النيل غرباً، ارتكازاً على قاعدتين، أولاهما: سقوط سوريا كعقبة كانت تحول دون الاندفاع الإسرائيلى نحو العراق. وثانيتهما: الدعم غير المحدود من الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب لطموحات إسرائيل بالتوسع خارج المساحة التى يعتبرها «ضيقة أكثر من اللازم» لكيان الاحتلال الإسرائيلى. يحدث هذا فى ظل طموحات غير محدودة لقوى إقليمية للتوسع فى الأراضى السورية.

الدقة فى التحليل تفرض علينا التأمل الدقيق لأمرين ترافقا زمنياً مع سقوط نظام الأسد كل منهما يفسر جانباً من مشهد «دراما السقوط السورية».

الأمر الأول يتعلق بالأداء الروسى الباهت فى الدفاع عن رأس النظام الحليف فى دمشق، بل والنظام الحليف كله، لأن السماح بسقوط رأس النظام يتضمن بالتأكيد سماحا بإسقاط النظام كله. كيف ولماذا قبلت روسيا بسقوط نظام حليفها بشار الأسد؟ هل هى مجرد مقايضة لسوريا بأوكرانيا؟ أى أن يسمح للرئيس بوتين بتحقيق «نصر» (أى نصر) فى أوكرانيا مقابل تسليم سوريا: وهنا يجدر السؤال عن ماهية هذا المجهول هل هو منظمات الجهاد الإسلامى المتشدد، أم لإسرائيل أم لتركيا، أم للدولتين معاً فى تقاسم تشرف عليه الولايات المتحدة لـ «الكعكة السورية» بين الحليفين الشرق أوسطيين للولايات المتحدة.

كما يجدر السؤال عن هل سماح روسيا بإسقاط نظام بشار الأسد كان ضمن صفقة مع جماعات المعارضة، تتضمن أدواراً ونفوذاً جديداً لروسيا فى سوريا الجديدة، واستضافة بشار الأسد، أم أن وضع روسيا لم يسمح لها بفرض أى مقايضة مع حكام دمشق الجدد؟

الأمر الثانى، وربما يكون الأكثر خطورة، هو أنه بعد أقل من 48 ساعة على إعلان التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله تعلن فصائل المعارضة التحرك ضد نظام بشار الأسد وبعد ساعات من إعلان نبأ رحيل بشار الأسد يقوم جيش الاحتلال الإسرائيلى بعشرات، بل مئات الغارات على البنى التحتية الأساسية والاستراتيجية للجيش السورى، بكل ما يعنيه هذا الجيش العربى من رمزية مهمة فى معادلة الصراع العربى – الإسرائيلى، ناهيك عن التوغل الإسرائيلى فى عمق الأراضى السورية وإسقاط «اتفاقية فك الاشتباك» لعام 1974 من طرف واحد، واحتلال قمة جبل الشيخ ذى الإطلالة الاستراتيجية على قلب العاصمة السورية.

أمران، أو حدثان يعنيان أن الهدف لم يكن مجرد إسقاط حاكم مستبد، كما تروج المعارضة السورية وأنصارها وداعموها العرب وغير العرب، بل الهدف هو «خيار المقاومة» ليس فقط بمفهومه العسكرى الذى يخص إسرائيل بالتحديد بل بمفهومه الأوسع السياسى والاجتماعى والاستراتيجى، وبالتحديد إحياء المشروع النهضوى العربى فى مواجهة المشروعات المنافسة خاصة المشروع الصهيونى، حيث إن المشروع الإيرانى ظل حريصاً على أن يكون قيادة لـ«تيار المقاومة» و«محور المقاومة» على الأقل بمفهومها الصراعى ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى.

من هنا يتكشف لنا أن تجدد الحديث عن «نظام شرق أوسط جديد» بعد إسقاط النظام السورى معناه المحدد: فرض نظام إقليمى شرق أوسطى على أنقاض المشروع النهضوى العربى، ودمج الدول العربية إما فى مشروع تطبيعى مع كيان الاحتلال الإسرائيلى، وإما مع مشروع إسلامى جهادى يلعب فيه تنظيم جماعة الإخوان المسلمين الدور الأساسى.

هل سقط نهائياً «مشروع المقاومة» وهل ستقف إيران متفرجة على تداعى مشروعها الإقليمى؟

وأين التيار القومى العربى من كل هذه الأحداث؟ هل سيقف متفرجاً أم ستكون له مراجعة لمفهوم «العروبة» بعيداً عن تهمة «الاستبداد» و«دعم النظم المستبدة» ومتطلعاً نحو «عروبة جديدة ديمقراطية وتقدمية» تجعل من مشروع المقاومة من أجل فلسطين محور ارتكازها؟

نقلا عن الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *