محمد سعد إمام
لا يمكن مناقشة قانون تأجير أو خصخصة المستشفيات الحكومية بمعزل عن الواقع السياسي والاقتصادي العالمي ومدى تأثيره على مصر. لقد تغيرت الرؤية العامة للصحة نتيجة التوجهات الاقتصادية العالمية، وبرزت محطتان أساسيتان: إعلان “ألما آتا” وتقرير “بيرج”، اللذان شكلا معالم التحول في إدارة الصحة عالميًا.
إعلان “ألما آتا”: الصحة كحق أساسي للإنسان
في مؤتمر منظمة الصحة العالمية عام 1978، بمدينة ألما آتا (كازاخستان)، تم إقرار الرعاية الصحية كحق أساسي من حقوق الإنسان. أكد الإعلان على:
أهمية الصحة كعافية شاملة (جسدية، عقلية، واجتماعية).
ضرورة التزام الحكومات والمجتمع الدولي بتوفير الرعاية الصحية.
رفض استخدام الأسواق لتخصيص الرعاية الصحية، محذرًا من فرض رسوم على الصحة والتعليم والمياه.
هذا التوجه أثر في سياسات البنك الدولي، حيث دعا تقرير التنمية لعام 1980 إلى الربط بين الرعاية الصحية الأولية والتعليم والتغذية، وحذر من خصخصة الخدمات الصحية.
تقرير بيرج وصعود النيوليبرالية
مع بداية الثمانينات، تراجع الدعم لفكرة دولة الرفاه، وصعدت النيوليبرالية كمقاربة اقتصادية مهيمنة، مروّجة لتحرير الأسواق وتقليص دور الدولة.
تقرير بيرج (1981) كان نقطة تحول رئيسية، حيث دعا إلى:
فرض رسوم على المستخدمين.
التوسع في التأمين الصناعي.
فتح المجال أمام القطاع الخاص في إدارة الصحة.
النظام الصحي: بين المجاني والتشاركي
النظام المجاني، مثل “نظام الخدمات الصحية الوطنية” البريطاني، يقوم على تمويل الصحة من الضرائب لتحقيق العدالة والمساواة.
النظام التشاركي، كالتأمين الصحي، يعتمد على مساهمات المواطنين، ولكنه يواجه تحديات تشمل:
صعوبة تغطية العمالة غير الرسمية.
التأثير السلبي للبطالة على استدامة التمويل.
دراسة “آدم واجستاف” (البنك الدولي) أبرزت مزايا النظام التشاركي من حيث استقرار التمويل، لكنها سلطت الضوء على تحديات دمج الشرائح الأضعف.
النظام الصحي في مصر: تحولات جذرية تحت وطأة النيوليبرالية
شهد النظام الصحي المصري تحولًا تدريجيًا نحو الخصخصة منذ السبعينيات:
العلاج الاقتصادي:
بدأ عام 1976 بتخصيص نسبة من الأسرة للعلاج بمقابل مادي.
تطور لاحقًا ليشمل تسعيرًا متغيرًا حسب الظروف الاقتصادية.
الانهيار في البنية الصحية:
انخفاض عدد المستشفيات الحكومية بنسبة 44% بين 2007 و2019.
تراجع عدد الأسرة لكل ألف مواطن إلى أقل من المعدلات العالمية.
أزمة الكوادر الطبية:
نقص الأطباء العاملين إلى 38% فقط من إجمالي القوة الأساسية.
استقالات جماعية نتيجة تدني الأجور وسوء ظروف العمل.
قانون التأمين الصحي الشامل: خطوة نحو التخصيص
قانون التأمين الصحي الشامل (2017) أطلق نموذجًا يعتمد على:
التعاقد مع المستشفيات الخاصة.
فرض مساهمات مالية على المواطنين مقابل الخدمات الطبية.
غياب تعريف واضح لـ”غير القادرين”، مما يحد من مجانية العلاج.
خصخصة المستشفيات الحكومية: القانون المثير للجدل
القانون الجديد يمنح القطاع الخاص حرية إدارة المستشفيات الحكومية، لكنه يثير مخاوف عدة:
تعارض مع الدستور: المادة 18 تنص على الحفاظ على المرافق الصحية العامة.
إعفاءات غير عادلة: إعفاء المستثمرين من سقف الأرباح المفروض على المرافق العامة.
تقليص العمالة: السماح بتسريح 75% من العاملين واستقدام أجانب.
تقليص الخدمات المجانية: تقليل نسبة الخدمات الموجهة لمرضى نفقة الدولة.
يمثل قانون خصخصة المستشفيات الحكومية استكمالًا لنهج نيوليبرالي يضعف حق المواطن في الصحة. ومع استمرار هذه السياسات، تواجه مصر خطر فقدان العدالة الصحية، وتحويل الخدمات الطبية إلى سلعة باهظة الثمن.