على الرغم من أن فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية والعودة مجدداً إلى البيت الأبيض فى واشنطن كان، بالنسبة لإيران، من الاحتمالات الممكنة، فإن هذا الفوز أربك حسابات القرار الإيرانى سواء ما يتعلق بالعلاقة المحفوفة بالخطر مع الولايات المتحدة أو بالعلاقة مع إسرائيل، وعلى الأخص بتجهيزات الضربة الإيرانية التى كانت مؤكدة وفقاً لتقديرات كبار السياسيين والعسكريين الإيرانيين رداً على العدوان الإسرائيلى الذى أصاب قدرات الدفاع الجوى الإيرانية ومنشآت إنتاج الصواريخ الباليستية إصابات مباشرة ومؤثرة. فقد أدركت القيادات الإيرانية أن المبادرة بتوجيه هذه الضربة لن يكون مجرد لطمة لإسرائيل واستعادة لـ”توازن الردع” بين الدولتين ولكنه سيفسر فى واشنطن على أنه يعد بمثابة رسالة تحدٍ مسبقة من إيران إلى الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، يمكن أن تجهز على أى نيات لدى هذا الرئيس وإدارته لمراجعة سياساتهما السابقة مع إيران. لذلك تتعامل إيران بحذر شديد وحسابات دقيقة فى بلورة معالم السياسة الممكنة مع هذه الإدارة وكيفية إدارة الصراع مع إسرائيل خلال الأسابيع القليلة المتبقية لإدارة الرئيس الحالى جو بايدن.
ضمن هذا التفكير الحذر بدأ التساؤل لدى أوساط إقليمية عربية بالذات، وكذلك أوساط إسرائيلية وأمريكية حول هل من الممكن أن تقبل إيران بالدخول فى «صفقة» مع الرئيس الأمريكى الجديد أم أنها سوف تختار «المواجهة» انطلاقا من أن هذا الرئيس لا يعرف أنصاف الحلول، وأنه حتماً سيسعى إلى فرض «مشروع» جديد جوهره «الانتصار لإسرائيل»، ومن ثم فإنه لن يدخل فى صفقة، إذا قبل الأخذ بمنطق الصفقات الذى يجيده ويفضله، أقل من صفقة تحقق لإسرائيل الطمأنينة إزاء البرنامج النووى الإيرانى، وهى طمأنينة لن تحدث إلا بثقة إسرائيل بانتهاء الخطر النووى الإيرانى نهائياً الذى لن يتحقق إلا بالقضاء الكامل على قدرات إيران النووية السلمية وليس فقط العسكرية، كما تحقق لإسرائيل الأمن الذى لن يتحقق إلا بالتوقف الإيرانى النهائى عن ما يعرف فى الأدبيات السياسية بـ «المشروع الإقليمى لإيران» الذى يعنى أولاً فرض إيران كقوة إقليمية كبرى قادرة على موازنة القوة الإسرائيلية أو التفوق عليها، ودعم طموحات إيران فى توسيع النفوذ وتشكيل «دائرة صراع ساخن» من القوى الإقليمية الحليفة تحيط بإسرائيل وقادرة على خوض صراع استنزاف دام مع الكيان الإسرائيلى إلى أن يحين موعد الإجهاز الكامل عليه والتحرير الكامل للقدس والمسجد الأقصى الشريف .
قبول مثل هذه الصفقة ليس له إلا معنى واحد وهو سقوط النظام الحاكم للجمهورية الإسلامية، وهذا ما تدركه إسرائيل جيداً وما عملت من أجله إدارة ترامب السابقة ووزير خارجيتها بومبيو، وعبر عنه مؤخراً بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلى فى رسالة مباشرة للإيرانيين حرّض فيها الإيرانيين للتخلص من نظام الجمهورية الإسلامية الذى يحكم إيران منذ عام 1979، وخاطبهم بقوله إن «نظام المرشد على خامنئى يخشى الشعب الإيرانى أكثر من إسرائيل» وقال لهم: «لا تفقدوا الأمل، واعلموا أن إسرائيل وآخرين فى العالم الحر يقفون إلى جانبكم».
وإذا كان قبول مثل هذه الصفقة يعد «ضربا من الخيال» أو «نوعاً من الجنون»، فإن الخيار المقابل أى التصعيد والمواجهة الساخنة مع ترامب وصقور إدارته القادمين سيكون أيضاً خياراً تدميرياً لإيران سواء من منظور المواجهة العسكرية أو من منظور تصعيد الضغوط الاقتصادية الأمريكية على إيران، لذلك فإن إيران تبحث عن «الحل الوسط» الذى يؤدى إلى تهدئة نوازع التصعيد الأمريكى ضدها معولة على احتمال أن تكون لدى ترامب مقاربة مغايرة نسبياً لسياساته فى الشرق الأوسط عن مقاربته الأولى، وأنه سيكون هذه المرة غير مقيد بإرضاء اللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة نتيجة عدة أسباب منها أنه لن يكون منشغلا بإرضاء هذا اللوبى لأن ولايته الجديدة الثانية ستكون الأخيرة ولن يحق له الدخول فى منافسة غيرها، ومن ثم لن يكون فى باله الفوز برضا الناخبين اليهود فى الولايات المتحدة، وأن غالبية اليهود صوتوا لمنافسته الديمقراطية كامالا هاريس.
كما يعوِّل الإيرانيون على مثل هذا الخيار الذى يمكن أن يأخذ اسم «الصفقة المحسوبة» التى يمكن أن تحد من اندفاعة ترامب العدائية ضد إيران على أمرين آخرين مهمين أولهما ما يمكن أن تقوم به حليفتها الدولية روسيا من أدوار تهدئة لنيات التصعيد الأمريكية ضد إيران انطلاقاً من إدراك إيران لوجود «علاقة حسن اهتمام» متبادلة بين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين والرئيس المنتخب دونالد ترامب، وأن ترامب الحريص على التفاهم مع بوتين لإنهاء الأزمة الأوكرانية لن يكون حريصاً على «إغضابه» فيما يتعلق بالموقف من إيران . لكن يبقى السؤال هنا مطروحاً بالنسبة للحدود المحتملة للدعم الروسى لإيران إذا كان مثل هذا الدعم يمكن أن يؤثر سلبيا على تفاهمات بوتين مع بايدن بخصوص حل الأزمة الأوكرانية. الأمر الثانى الذى تعوّل عليه إيران هو الدور الإيجابى الذى تقوم به، والذى يمكن أن تقوم به المملكة العربية السعودية فى احتواء الاندفاع التصعيدى الأمريكى ضد إيران، وفقاً لمؤشرات مهمة بهذا الصدد، منها أن الرئيس ترامب أعلن اختياره السعودية كمحطة أولى فى جولاته الخارجية التى سيقوم بها عقب توليه الحكم فى يناير القادم، ومنها دعوة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى خطابه الافتتاحى للقمة العربية – الإسلامية فى الرياض إلى «ضرورة إلزام إسرائيل احترام سيادة إيران وعدم الاعتداء على أراضيها» ومنها زيارة رئيس الأركان السعودى لإيران خلال الأيام الماضية ضمن مخطط تنسيقى للعلاقات العسكرية بين البلدين. نفى إيران القوى والانفعالى الرافض لتسريب صحيفة «نيويورك تايمز» عن لقاء الملياردير الأمريكى أيلون ماسك المقرب من الرئيس ترامب مع رئيس الوفد الإيرانى بالأمم المتحدة يعنى أولاً حرص إيران على تأكيد صلابة موقفها السياسى وعدم استعدادها للقبول بـ «صفقة كسرعظام» يمكن أن تفرضه عليها. لكن يبقى ما تقوم به إسرائيل لمحاصرة التحرك الإيرانى الاستباقى تحدياً كبيراً من شأنه تفاقم الضغوط المحتملة ضد إيران.
نقلا عن الأهرام