حسين عبد الغني
لا تتصف الأمة العربية بقدرة طبقتها الحاكمة ونظامها الرسمي على إضاعة كل نصر كبير، ولكن تتصف بمصيبة أخرى هي أنها عندما تخسر جولة في الحرب وتشيع فيها أجواء الهزيمة تسارع بالاستسلام وتقديم تنازلات مجانية من سيادتها وحرية قرارها لا تبرره الأوضاع الميدانية .
فما إن بدا أن الولايات المتحدة خططت على مدى شهور جهدا إسرائيليا – تركيا – أوكرانيا لدعم هجوم المعارضة المسلحة السورية قاد إلى إلى سقوط مهين للنظام الديكتاتوري لعائلة الأسد إلا وبادرت أطراف عربية وفلسطينية بمواقف جمعت بين الانكسار والأنانية في آن واحد.
في هذه الهرولة للانسحاق سقطت أقنعة كثيرة في العشرة أيام بين ٢٧ نوفمبر تاريخ إعطاء الإشارة للجولاني بالهجوم على حلب وبين ٦ ديسمبر تاريخ سقوط دمشق بلا قتال.
سقوط قناع صلابة النظام السوري: سواء بسبب استمرار نظام البعث السوري لـ ٥٣ عاما متصلة أو بسبب هيمنة الأمن على السياسة وعلى المجتمع أو بسبب موقفه الوحيد الصحيح وهو العداء لإسرائيل ورفض الانجرار للتطبيع صدق الكثيرون القناع الذي ارتداه النظام السوري مقدما نفسه كنظام صلب يحظى بقيادة قوية. في اختبار الهجوم المنسق أمريكيا – وتركيا سقط قناع بشار الأسد الذي اشتهر بمقولة: إن «القائد الذي يهرب إما جبان أو فاسد». فالأسد لم يكتف بالهرب لموسكو فارا بحياته ولكن فعل ما هو أخطر كقائد أعلى للجيش السوري وهو أمره هذا الجيش بإلقاء السلاح والتنحي عن مواقعه. لا يفسر ذلك فحسب الانهيار السريع للنظام بل يكشف عن حقيقة أن تمكن العدو الإسرائيلي من احتلال جبل الشيخ والمنطقة العازلة والوصول إلى أطراف دمشق ليس سببه قدرات مهولة للجيش الإسرائيلي بقدر ما كانت نتيجة منطقية لترك جيش مواقعه في الجبهة مع إسرائيل ومواقعه في حراسة المطارات وقواعد الدفاع الجوي في الداخل وتركها بدون مشغليها من المقاتلين فوقعت في فم الذئب لقمة سائغة. شتان ..شتان بين نهاية صدام حسين ونهاية بشار الأسد كقائدين لنظامين جمعتهما عقيدة البعث فكريا والاستبداد سياسيا ولكن فرق بينهما -في لحظة النهاية – شجاعة قائد وجبن الآخر.
سقوط قناع أكاذيب أبناء داعش والقاعدة عن الاعتدال والاستقلال: البدء بالكذب في التصريحات الأولى المؤسسة لأي قائد تنتقل إليه السلطة الفعلية هو أكبر بداية خاطئة وأكبر مؤشر سلبي شديد السلبية على مستقبل هذا البلد تحت قيادته أو قيادة تياره الفكري وإطاره العسكري. فرغم وضع الأمريكيين تحت تصرف الجولاني كل خبرات هوليوود العبقرية في صناعة الصورة وتحويل الرجل الشرير إلي رجل طيب فإن أحمد الشرع بدأ عهده بأكاذيب نختار فقط ٣ منها :
الأكذوبة الأولى : حررنا سوريا دون أي مساعدة من أحد وكل سلاحنا محلي أو استولينا عليه من المعارك مع النظام وقرار الهجوم لم يتم التنسيق فيه مع طرف خارجي: كشفت المعلومات الموثقة أن الهجوم تم بمسيرات وأسلحة أوكرانية «١٥٠ طائرة مسيرة أوكرانية وضباط تدريب أوكرانيين ومسيرات تركية « شاهين » وتدريب رعته المؤسسة الأمنية التركية والأمريكية داخل سوريا وعبر الحدود وتكفلت أطراف إقليمية بالتمويل. ودخلت الوصلة الإسرائيلية على خط التنسيق بقوة مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان وتوافقت هذه الأطراف مع الشرع على بدء الهجوم بعد توقيع هذا الاتفاق لكي تستفيد من ضعف إيران وحزب الله داعمي الأسد الأساسيين خاصة بعد حالة عدم الاتزان مع غياب مركز المقاومة السيد حسن نصر الله. من الناحية العملية لا تقل مسؤولية حكام سوريا الحاليين عن مسؤولية النظام السابق في فتح طريق الجولان وطريق دمشق للاحتلال الإسرائيلي خاصة بعد أن أعلن الجهادي الإسلامي صراحة أنه لن يحارب إسرائيل.
الأكذوبة الثانية لأحمد الشرع “انتقلت وتنظيمي إلى الاعتدال وقطعنا صلاتنا بداعش والقاعدة”. في الأيام الأولى للجولاني في دمشق تم إحالة القاضيات السوريات للمعاش لأن المرأة في الفكر السلفي الوهابي ليست مواطنا كاملا بالطبع لا تصلح للإمامة الكبرى من قضاء أو رئاسة الدولة. وتبدو هنا التقية الجهادية مرجحة ومسألة إطفاء أنوار التسامح مع النساء والأقليات مسألة وقت.
الأكذوبة الثالثة: هو أن ثوار سوريا استوعبوا دروس الربيع العربي ولن يكرروا أخطاء الإسلاميين في الدول الأخرى ومنها التمكين واحتكار السلطة ونبذ الكفاءات الوطنية. إذ تم تعيين رئيس وزراء إسلامي لسوريا من أهل الثقة وكل خبرته أنه كان وزيرا في حكومة الجولاني في منطقة إدلب الصغيرة المحافظة الثامنة من حيث مساحة سوريا الكلية وهي الحكومة التي لم تتوقف مظاهرات أهل إدلب احتجاجا علي عدم فعاليتها وعلى سجونها وقسوتها على السكان وهي قسوة طالت القريب قبل البعيد فتنسب مصادر عدة لمحمد الجولاني قيامه قبل شهور باعتقال ثم باغتيال ميسر الجبوري أهم رفيق في رحلته الجهادية من العراق إلي سوريا.
سقوط القناع الفلسطيني حمساويا / فتحاويا : حقق بعض قيادات حماس في الخارج أعز أماني وتوقعات بعض الدوائر الإسرائيلية التي قالت: إن المكسب الرئيسي لغياب «استشهاد» السنوار هو تمتع قيادات حماس في الخارج بالتحرر من سيطرة قيادات الداخل وجناحها العسكري الذي قد ينعكس في مرونة أكبر في المفاوضات. انقلبت هذه القيادات علنا على إرث السنوار وهنية وصالح العاروري الأهم في الابتعاد عن الشؤون الداخلية للدول العربية وتصحيح أخطائها في الربيع العربي الذي جعلها تنحاز آنذاك للإخوان المسلمين في مصر وسوريا. فقد قام السنوار بإعادة العلاقات مع إيران وحزب الله ومكن ذلك المقاومة الفلسطينية من مضاعفة قوتها عشرات المرات ومباغتة إسرائيل في طوفان الأقصى في أكبر لطمة في تاريخها. مكن ذلك حماس من تغيير ميثاقها وإعادة صياغة هويتها ليست كفرع فلسطيني من الإخوان المسلمين ولكن كحركة تحرر وطني. عندما قام طوفان الأقصى اتضحت قيمة ما فعله السنوار إذ توحدت كل الشعوب العربية وكل تياراتها حول المقاومة ولم يفكر أحد في جذرها الأيدلوجي القديم. لكن هذا الإنجاز التاريخي تبدد مع تطورات المشهد السوري الجديدة. فمع انحياز حماس للقيادة الجهادية الجديدة في دمشق تم إحياء كل الخلافات معها وعليها في الشارع العربي عندما عادت وارتدت الثوب الأيدلوجي الصريح وأعادت الخصومة مع طهران وحزب الله داعميها الوحيدين بعد تخلي النظام العربي عنها هل أقنعت أنقرة مشعل بأنها بعلاقة الشراكة القائمة بينها وبين أمريكا وإسرائيل في سوريا ستكون قادرة على ضمان مكان لها في مستقبل غزة لا أحد يعلم. وسيكون من عادوا لرفع راية الإخوان أن يواجهوا معارضة الداخل التي تضم من ينتمون أكثر لإرث السنوار ومنهم خليل الحية وزاهر جبارين.
السلطة الفلسطينية التي تسابق الزمن للعودة إلى غزة وحكمها بأي ثمن. رفعت عنها قناع التحجج بأن منعها انتفاضة الضفة والتي كانت لتغير مسار ومصير الطوفان إنما يفرضه عليها الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل.
الأقنعة الدولية والإقليمية والعربية التي ذابت وانصهرت في نار الانقلاب الاستراتيجي في المعادلة السورية بل وإلى حد كبير في الشرق الأوسط كله.
سقوط قناع التزام واشنطن بالمعاهدات الدولية التي ترعى مفاوضاتها: الهجوم المخطط له أمريكيا وتركيا وإسرائيليا كان يتوقع فراغا كبيرا في القوة يسمح لإسرائيل باحتلال كامل هضبة الجولان بما فيها المنطقة التي حررها السوريون في حرب أكتوبر ٧٣ ومناطق أخرى، لكن إسرائيل لم تكتف بذلك بل قام نتنياهو من طرف واحد بإلغاء اتفاقية فض الاشتباك بين إسرائيل وسوريا الموقعة ١٩٧٤. القناع الذي سقط هنا أن الولايات المتحدة كقطب واحد للنظام الدولي القائم ويفترض به حماية قواعده القانونية وعلى رأسها احترام المعاهدات الدولية ـ سمحت لإسرائيل بأن تلغي من طرف واحد اتفاقية حولها قرار مجلس الأمن الدولي إلى معاهدة دولية ملزمة. المغزى الحقيقي الذي أطاح بما تبقى من مصداقية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط هو أن هذه الاتفاقية تمت بوساطة أمريكية والضمانات التي قدمت فيها كانت ضمانات أمريكية. بعبارة أوضح أهدرت واشنطن ـ في سبيل مصالحها المشتركة مع إسرائيل في الاستحواذ على أكثر ما تستطيع من نفط وثروات العرب والسيطرة على موقعهم الاستراتيجي ـ ضمانات معاهدات صنعتها هي بنفسها ووقعت عليها أطراف عربية وهي تعتقد أن أمريكا كضامن لن تقبل أبدا بخرقها من طرف واحد كما فعلت إسرائيل. تعليق مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان على ما فعلته إسرائيل في سوريا من أنه يتفق مع حق الدفاع عن النفس يجعل من اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة وغيرها من التي رعتها واشنطن بين أطراف عربية وإسرائيل تتدهور إلى مجرد ورق معلق في الهواء وقد أعطي ضامنه مثالا مخيفا على قدرته على التنصل منه ومجاراة الجموح الاحتلالي التوسعي الإسرائيلي في تمزيق هذا الورق متى شاء.
سقوط قناع استقلال تركيا عن الناتو: في نار الانفجار السوري الأخير انصهر القناع الإسلامي الذي اتخذه حزب العدالة والتنمية ووظفه في مضاعفة التجارة بينه وبين العالم العربي من ٩ مليار دولار ١٩٩٤مع الحكومات التركية العلمانية السابقة عليه إلى نحو ٤٠ مليار دولار في العام الأخير. ظهر القناع الأطلسي للعضو الراسخ في حلف الناتو وصديق إسرائيل الذي كان أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في ١٩٤٩ أي بعد عام واحد من النكبة، وتمتعا وما زالا بعلاقات عسكرية واقتصادية وثيقة للغاية من دون نموذج واحد منها كانت لتنهار إسرائيل في حربها على جبهات عدة منذ ٧ أكتوبر الماضي. هذا النموذج هو خط إمدادات الغاز من آسيا التي تمر عبر تركيا ولم تجرؤ أنقرة حتى على التفكير في قطعها انتصارا لغزة. يسخر الإسرائيليون من دعوات تركيا لهم بالانسحاب من الجولان ودرعا والاقتراب ٢٠ كيلو متر من دمشق فيقولون ببساطة إن تركيا هي آخر من يتكلم عن الاحتلال والانسحاب ليس فقط لأن تركيا تحتل أراضي سورية كبيرة ولا تبدي أي نية للانسحاب منها بل سيدت عملتها وطوابع بريدها ولغتها في هذه المناطق ولكن أيضا لأن الولايات المتحدة والناتو يستطيعان تنسيق عملية ممنهجة لإدارة تنافس المصالح بين أنقرة وتل أبيب بصورة تضمن لكل منهما مكاسبه طالما يأتمر كليهما بنفس الاستراتيجية الغربية. يتكلم جنرالات إسرائيل السابقون بوضوح عن أن تعارض بعض المصالح مع تركيا لا يمثل تهديدا على المدى القصير وربما المتوسط وإنه حتى على المدى الطويل قابل لحلول براغماتية. ومنها مثلا حل المشكلة التي تؤرق تركيا وهي التهديد الكردي. يمكن لأمريكا مثلا أن ترتب حلا يتم فيه الحفاظ على علاقات واشنطن وتل أبيب بالأكراد السوريين وتثبيت جيب الحكم الذاتي لهم في شمال شرق سوريا وفي الوقت نفسه منعهم من تشكيل أي تحد للأمن التركي. لا تبدو أنقرة هنا مستعدة لمواجهة مع إسرائيل حول الجولان أو فلسطين تعرف أن أمريكا ستنضم فيها للإسرائيليين. مواجهة قد تجهض تماما حلم أردوغان في استعادة نفوذ شرق أوسطي يمتد من المشرق العربي للشمال الإفريقي ومنه للسودان والصومال. امتداد جيوسياسي عربي!! يرى الشوفينيون الأتراك أنه حقهم لولا أن العرب خانوهم وتآمروا مع الغرب في الحرب العالمية الأولى ما أدى إلى سقوط الخلافة العثمانية فعليا في نهاية هذه الحرب ورسميا عام ١٩٢٣.
سقوط أقنعة النظام الرسمي العربي: لم يرتدع النظام الرسمي العربي من التبعات المخيفة من احتلالات تركية وإسرائيلية لسوريا ومن أن تفشل المجموعة الجديدة في بناء سوريا ديمقراطية ومدنية تحترم المواطنة وبالتالي سيكون خطر امتداد الإرهاب للمنطقة من جديد خطرا داهما.
وكما سقطت أقنعة دفاعه عن القضية الفلسطينية سقوطا شنيعا في اختبار طوفان الأقصى وحرب الإبادة والتجويع في غزة سقط هذا النظام في المشهد السوري الجديد. التحدي الجماعي للأمن القومي العربي لم يكن كافيا لهذه الدول لاتخاذ موقف موحد تجاه الأزمة. مرة أخرى تصرف كل طرف عربي حسب ما يرى أنه يحمي مصالحه. الأطراف التي تخشى من خطر الإرهاب سعت، ويا للمفارقة، للحصول من واشنطن التي قال رئيسها المنتخب مرة أننا – أي الأمريكيين – الذين خلقنا داعش أو من أنقرة التي لم تتخل عن إسلاميي سوريا يوما واحدا منذ ٢٠١١ على ضمانات بأن لا تتسلل مجموعات الجهاد الأجنبية والعربية في سوريا مرة أخرى للدول المجاورة أو دول الخليج. الأطراف التي تدعم الإسلام السياسي اندفعت لدعم النظام الجديد في دمشق وتتحدث صراحة عن ربيع عربي جديد يقوده الإخوان المسلمون. تبددت أقنعة الدفاع عن الأمن العربي الجماعي أو عن الدفاع عن الشعب الفلسطيني وبكى كل منهما على ليلاه. الخطير أن العرب استبدلوا نفوذ دولة واحدة «إيران» بنفوذ بل باحتلال تركي وإسرائيلي لأراض عربية. تمنوا نهاية المشروع الإيراني فوجدوا مشروعين أخطر منه يعملان تحت راية الناتو ويتحالفان سرا وعلنا منذ ٧٥ عاما متصلة. الإدمان العربي على تكرار الأخطاء التاريخية دون أدنى استفادة والذي يعقبه ندم مرير وبكاء على اللبن المسكوب هو نفس الندم الذي سنسمعه بعد سنوات وربما بعد شهور والذي سبق وأن أبداه مسؤول عربي راحل شارك أكثر من أي شخص آخر في عمليات إضعاف وإسقاط الاتحاد السوفييتي السابق. إذ تحسر مرة على سقوط الاتحاد السوفييتي الذي كان يخلق توازنا وهامش حركة للدول الصغيرة تبدد تماما مع غيابه وإحكام أمريكا بعده قبضتها على عنق الجميع بما فيهم الحلفاء المقربين.
نقلا عن عمان