عاش الموسيقار عمار الشريعى فى القاهرة منذ أن كان فى الخامسة من عمره حتى وفاته يوم 7 ديسمبر 2012، وطوال هذه السنوات لم تغادره بلده سمالوط بمحافظة المنيا التى ولد فيها يوم 16 إبريل 1948، وأوصى بدفنه فيها إلى جوار والده وأخيه مراد، فكانت جنازته فى 8 ديسمبر، مثل هذا اليوم،2012.
كان عمره 64 عاما، ولديه ثروة إبداعية استثنائية، ومحبة هائلة بدليل حالة الحزن العميقة على فقده، ومشهد جنازته المهيب بتأكيد الفنان على الحجار فى شهادته بكتاب «عمار الشريعى سيرة ملهمة»، قائلا: «رحنا وراء نعشه من القاهرة إلى المنيا، كنا كتير، كنت أنا والفنان الكويتى عبدالله الرويشد، وأمير عبدالمجيد، وصلنا بلده وفيها الجامع باسمهم، الشرايعة، ناس كتير جدا من هناك كانت مشاركة فى الجنازة، وسمعت ناس بتتكلم عنه بكل خير ومحبة، وتبكى عليه بجد».
يضيف «الحجار»: «نزلت معه القبر، سبحان الله كان قبره رائحته جميلة، سافرنا خمس ساعات رايح جاى بكل سهولة، كل حاجة كانت ميسرة، ومن الحاجات الطيبة اللى أنا شايلها للفنان عبدالله الرويشد إنه حضر من الكويت مخصوص وحضر الغسل، وسافر خمس ساعات إلى المنيا، ونزل القبر معى، وعاد من المنيا إلى مطار القاهرة مباشرة للعودة إلى الكويت، مفيش أكتر من كده محبة لعمار».
كان الدكتور محمد عبدالقادر، مهندس الصوت، الذى رافق عمار أكثر من عشرين عاما، وأعد رسالة دكتوراه عنه، ممن وقفوا على غسل الجثمان مع المنتج الفنى عمرو الصيفى صديق عمر عمار وعبدالله الرويشد، ويؤكد لمجلة «صباح الخير» 12 ديسمبر 2012، أن الاستقبال كان مهيبا من الأهالى لجثمان عمار، منذ وصوله إلى منزل العائلة، ووضعه فى حوش المنزل، ثم نقله من الصندوق الخشبى الموضوع فيه إلى صندوق آخر، وخروجه فى جنازة ثانية احتشد فيها المئات من أهالى القرية ومن المودعين، وسارت على مدى ثلاثمائة متر، وهى المسافة بين المنزل وبين الجامع المسمى باسم عائلة الشريعى.
عاد عمار إلى بلده لدفنه تحت ترابها، بعد أن مضت الحياة به منذ يوم ولادته، الذى يتذكره للكاتبة الصحفية عائشة صالح بمجلة المصور 11 أغسطس 1995، قائلا: إنه ولد يوم جمعة بين المغرب والعشاء، يومها جاء لزيارتهم رجل بدوى يعيش فى الصحراء الغربية بين مصر وليبيا، الرجل صديق لجد عمار، أما والد عمار فيحب الرجل كثيرا ويناديه عمى عمار المصرى، تناول الرجل طعام الغذاء معهم، وامتدت الزيارة حتى جاء المولود الجديد، فأطلق عليه اسم عمار.
سأل عمار أمه السيدة أعطاف، ابنة مراد الشريعى بك أحد أقطاب ثورة 1919 عن يوم مولده، ردت: «مولدك أهم ما جرى فى الكون كله فى ذلك اليوم»، وبالرغم من ذلك وكما قال لى: «كان اكتشاف أنى كفيف مفاجأة مذهلة، كان زلزالا عند أمى، وبطبيعة الحال لم يكن أبويا، على محمد الشريعى، يتمنى ذلك، لكنه وجد نفسه أمام حقيقة لا فرار منها، وستبقى طول العمر، فجهز نفسه لرحلة خاصة معى، يزيد منها أننى كنت طفلا شقيا، سريع الحركة، ومتعبا لكل من حوله، كانت أمام أبى تجربة ملهمة للدكتور طه حسين، تصور أنه يمكن تكرارها معى، فأحضر لى شيخا لتحفيظى القرآن الكريم، كخطوة نحو التحاقى بالأزهر الشريف».
يضيف: «كان أبى شديد الإدراك والفهم لتصرفاتى، ولديه القدرة على أن يعى ما وراء تصرفات ابنه الطفل الشقى الذى يصر على أن يمارس حياته مثل باقى الأطفال المفتحين فيسبح فى الترعة، ويطلع الشجر، ويركب الدراجات، ويلعب الكرة، وحاجات تانية كنت أفعلها قررت بها ومعها أن أعيش حياتى».
يتذكر: «كان أبى يدخل على فيجد الراديو فريسة تحت يدى، مصارينه بره، أقوم بتقطيعه، حتة حتة، الأسلاك فى ناحية، والمؤشر فى ناحية، والزراير فى ناحية، سألنى أول مرة: بتعمل إيه يا عمار؟ قلت له: أنا بدور على شادية، عايز أسلم عليها، كنت أتصور شادية اللى بتغنى قاعدة ومربعة وبتشرب شاى كمان داخل الراديو، ضحك أبى وسألنى: لقيتها ولا لسه؟».
«كان فك الراديو هواية جميلة ربطتنى بالتكنولوجيا مبكرا، وعوضتنى نسبيا عن أشياء أنا محروم منها لأنى كفيف، وتطور الأمر إلى أن فكرت فى أن أكون مهندسا للكهرباء، كنت أقول لنفسى، هى الهندسة دى حكر على المفتحين وبس، لأ، لأ، أنا زيهم، وأحسن منهم كمان».
«القصة لم تعد بحثى عن شادية، وإنما رفضى للعجز، وعدم شعورى بالنقص أمام المفتحين، يعنى إيه واحد منهم يكون مهندس كهربا، وأنا لأ، تقدر تقول إنها بذرة التحدى التى ولدت بداخلى بدأت منذ أن وضعت يدى على حقيقة حالتى، التحدى، قيمة تشعر بمعناها حين تجدها نموذج يتم تطبيقه بإيجابية، تتأكد أن هذا التحدى تاج فوق رؤوس ناس يظن البعض أنهم سيصبحون مجرد عدد، لكنهم حولوا الحياة إلى معنى وقيمة».
نقلا عن اليوم السابع