محمد السعيد إدريس
سقط نظام بشار الأسد، والأمر، كما يبدو داخل سوريا أثار بهجة شعبية حقيقية قد تمتد لأسابيع أو لأشهر قادمة، لكن بعدها حتماً سيطرح كل هؤلاء، ولو بعد حين، سؤالاً مصيرياً لا مهرب منه: سوريا الجديدة إلى أين؟ هل إلى متاهة جديدة من الفوضى والضياع خاصة بعد أن قامت إسرائيل بتدمير كل قدرات الجيش العربى السورى على مرأى ومسمع من الحكام الجدد وعلى رأسهم زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولانى التى تحولت إلى «هيئة تحرير الشام» دون أن تحدد «أى شام تقصده»، وأى «تحرير تعنيه» .. هل الشام الذى تقصده هو العاصمة السورية دمشق أم أن المقصود هو منطقة الشام التاريخية التى تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن؟ وهل التحرير الذى تعنيه هو تحرير سوريا من نظام الأسد أم تحرير الشام الكبير. أما الجولانى فقد أخذ يعرف نفسه باسمه الحقيقى «أحمد الشرع» استعداداً لتحقيق طموحه الذى أفصح عنه وهو أن يكون رئيساً للجمهورية العربية السورية، وهذا بدوره يأخذنا إلى سؤال آخر لا يقل أهمية وهو : من سيحكم سوريا الجديدة؟
أبو محمد الجولانى أو أحمد الشرع حرص على أن يعلن من الجامع الأموى فى دمشق أن الانتصار على الأسد «هو انتصار للأمة الإسلامية» ولم يشأ أن يقول إنه «انتصار للأمة العربية» حيث إن الأمر يخص مستقبل دولة عربية من مؤسسى جامعة الدول العربية ، وبعدها كانت جزءاً أصيلاً من الجمهورية العربية المتحدة مع مصر وكانت تعرف دائماً بأنها «قلب العروبة النابض». الجولانى لم يكتف بذلك لكنه تحدث عن مقاتليه باسم “المجاهدين” رغم أن هؤلاء المجاهدين لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى طيلة أكثر من 13 شهراً فى وقت كان جيش الاحتلال الإسرائيلى يذبح قطاع غزة من الوريد إلى الوريد فى عملية «إبادة جماعية وتطهير عرقي» غير مسبوقة، ما يعنى أن «الجهاد» له مفهوم آخر عند الجولانى وجبهة النصرة بدليل أنه لم ينطق بكلمة واحدة ضد التوغل الإسرائيلى فى الجنوب السوري، وترك مقدرات الجيش السوري، التى هى ملك للشعب السورى تحت رحمة بنيامين نيتانياهو الذى أعطى الضوء الأخضر لطيران جيش الاحتلال وقوات البحرية لتدمير القدرات العسكرية الكاملة لسوريا، واكتفى بالقول إن «سوريا لن تنخرط فى أى حرب أخري» وأعطى لنفسه وجماعته أولوية التركيز على جرائم نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، وفى الوقت الذى كان فيه كل التركيز الإعلامى الجديد والإعلام الداعم من خارج سوريا يركز على التنديد بجرائم الأسد ضد السوريين الأبرياء، والتجول فى سجن أو معتقل «صيدنايا» كانت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلى تتوغل أكثر من 25 كيلومترا إلى الجنوب الغربى من العاصمة دمشق فى ظل صمت كامل من الذين أعطوا أنفسهم حق حكم سوريا بعد الأسد، ولم يتحرك هؤلاء لإدانة إلغاء إسرائيل اتفاقية فك الاشتباك مع سوريا لعام 1974 وضم المنطقة العازلة بين الجيش السورى والإسرائيلى كما حددتها تلك الاتفاقية، ولم يصدر أى تعليق رسمى سورى على تسليط الإعلام العبرى الضوء فجأة على عشرات آلاف الدونمات داخل العمق السوري، ويدَّعى أن البارون «إدموند جيمس دى روتشيلد» اشتراها من الدولة العثمانية لصالح الوكالة اليهودية، الأمر الذى بات يطرح تساؤلات جادة حول المدى الذى ستصل إليه الأطماع الإسرائيلية فى الأراضى السورية، فى ظل قناعة راسخة لدى بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلى أن انهيار الأسد جاء نتيجة الهجمات التى نفذتها إسرائيل ضد إيران و«حزب الله» وأدت إلى إضعافهما، وقوله، فى سياق حديثه عن «الحدث السوري»: «هذا يوم تاريخى فى تاريخ الشرق الأوسط.. ومن جهتنا لن نسمح لأى قوة معادية بترسيخ وجودها على حدود إسرائيل»، ما يعنى أنه لن يسمح أن تعود سوريا مجدداً قادرة على أن تهدد الأمن والوجود الإسرائيلى ما يكشف عن مشروع إسرائيلى مدعوم أمريكياً بأن سوريا الجديدة ستكون، أو يجب أن تكون مماثلة لـ«العراق الجديد» بعد احتلاله وتدميره: دولة بدون قدرات قتالية عسكرية قادرة على تهديد إسرائيل أو تحدى المشروع الإسرائيلي.
هذا يعنى أن إسرائيل «تعمل وستعمل» من أجل أن تكون «سوريا الجديدة» دولة صديقة ومهيأة للتطبيع دون تردد. وربما تكون الثقة الإسرائيلية بهذا الخصوص ما يتردد عن العلاقة القديمة والتاريخية التى تربط «جبهة النصرة» بإسرائيل منذ عهد حرب هذه الجبهة ضد «سوريا بشار الأسد» حيث كانت إسرائيل تقدم كل الدعم لهذه الجبهة كى تسقط نظام بشار الأسد قبل أن ترحل إلى إدلب بعد نجاح الجيش السوري، وبدعم روسي، من إعادة تحرير الجنوب السورى وجبهة درعا وريف دمشق .
إذا كانت إسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نيتانياهو يعملان من أجل «وضع سوريا الجديدة تحت الوصاية الإسرائيلية» والعمل من أجل الحيلولة دون وصول أى قيادى سورى لا يقر مسبقاً بـ«السلام مع إسرائيل» والانسحاب ، نهائياً، من تيار المقاومة، وإنهاء العلاقة مع إيران و«حزب الله»، فإن الولايات المتحدة التى وضعت «جبهة النصرة» ضمن قائمة الإرهاب، وخصصت عشرة ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات تؤدى إلى اعتقال أبو محمد الجولانى ، بدأت فى إجراء مراجعة لكل ذلك، وأجرت بالفعل محادثات مع الحكام الجدد سواء عبر تركيا أو بشكل مباشر، وأعلن الرئيس الأمريكى جو بايدن أن سقوط الأسد يشكل «فرصة تاريخية» للسوريين ، وأن الولايات المتحدة ستعمل مع جميع المجموعات السورية من أجل انتقال سياسى . وكانت محطة «سى إن إن» الأمريكية هى من أخذ على عاتقه تلميع الجولانى كحاكم جديد لسوريا .
رغم ذلك يبقى لدينا سؤال مشروع هو: هل سيسمح الشعب السورى بعد أن تحرر من سطوة نظام بشار الأسد أن يقع مجدداً تحت سطوة جماعات لها مشروعها السياسى .
وما هى حدود المسئولية العربية والمسئولية فى تأمين عودة سوريا حرة مستقلة ذات سيادة، وقلباً للعروبة الذى يجب أن يبقى نابضاً ؟
نقلا عن الأهرام