استراتيجيّة دونالد ترامب في الشرق الأوسط، من دون أي مُواربة، هي السعي لتصفية القضيّة الفلسطينيّة تمامًا والانتهاء من هذا الصداع المُزمن وبناء تحالفٍ إقليمي عربي – إسرائيلي ضد إيران عبر تطبيعٍ واسعٍ ومنظومةٍ عسكريةٍ مشتركة تشرف عليها القيادة المركزيّة الأميركيّة وتسمح للبنتاغون بتوجيه موارده إلى الشرق الأقصى حيث النزاع الرئيسي مع الصين.
تتضمّن هذه الاستراتيجيّة استهدافًا لإيران وحلفائِها من خلال إضعاف محور المقاومة مثل “حزب الله” و”حماس” والحوثيين وفصائل في سوريا والعراق في انتظار لحظة في المستقبل للقضاء المُبرم عليه. كما تتضمّن سعيًا للحدّ من قدرة إيران على تزويد فصائل محور المقاومة بالسلاح والأموال، ومنع إيران منعًا صارمًا من امتلاك السلاح النووي بأدواتٍ تتراوح ما بين العصا والجزرة.
في إطار هذه الاستراتيجيّة، نشير إلى مجموعة سيناريوات متوقّعة ليست متنافسة، بل هي أقرب أن تكون متتابعة ومتداخلة وقد يقود بعضها إلى الآخر. هذه السيناريوات بدأ ترامب بعضها بالفعل ولم ينتظر تنصيبه الرسمي وهي على الأقل ستميّز توجّه إدارته تجاه المنطقة على المدى القصير، وهي أيضًا كما تمّت الإشارة إليها مرارًا، قد تنقلب رأسًا على عقب، ونشهد معه سيناريوات “بجعة سوداء” تعكس شخصيّته المزاجيّة الناريّة واعتماده على الحدس وليس على المنطق.
١ – سيناريو الرسائل “الردعية”
يُطبّق ترامب في هذا السيناريو فكرةً مفضّلة في تيّاره الإيديولوجي، وهي أنّ رسائل القوّة تُغني عن استعمال القوّة وأنّ كثيرًا من الحروب الأميركية التي خاضتها نخبة واشنطن الفاسدة من أجل عيون المجمّع الصناعي العسكري كان يمكن تفاديها برسائل الرّدع والتهديد باستخدام القوّة.
الإيرانيون قد يمتنعون عن أي خطوة تستفزّ ترامب وصقوره وتنظيمات المقاومة تقول إنها مستعدّة لإبداء المرونة
ببراعةٍ شديدة، استخدم الرئيس المنتخب هذا السيناريو ومارس سلطته حتى قبل تنصيبه رسميًّا وذلك عن طريق إعلان أسماء مرشحيه لشغل مناصب الخارجية والدفاع والأمن القومي ومجمّع المخابرات وسفيرة واشنطن في الأمم المتحدة وسفيره في إسرائيل، وهي المناصب التي ستكون معنيّة بملفّات السياسة الخارجيّة وفي القلب منها الشرق الأوسط المشتعل بالحرب على عدَّة جبهات. مَن عيّنهم جميعًا هم من الصقور المعادين بقوّة للفلسطينيين وإيران وبعضهم مثل هاكابي يقف – بتعبيرات الإسرائيليين أنفسهم – إلى يمين سموتريتش وبن غفير.
الرسالة التي مفادها أنّكم ستكونون أمام إدارة لن ترحمْكم، وتُعتبر إدارة ترامب الأولى نعمةً بالنسبة لها، وصلت بقوّة إلى طهران وتنظيمات المقاومة والعواصم العربيّة. وشهدنا تغيّرًا في اللهجة في المنطقة، فهناك مؤشرات إلى أنّ الإيرانيين قد يمتنعون عن أي خطوة قبل تنصيبه تستفزّه وصقوره إلى مواجهة مبكّرة. وتنظيمات المقاومة تتصرّف بحذر وتقول إنها مستعدّة للتفاوض وإبداء المرونة. أما العواصم العربيّة التي يتمتّع فيها الحكام بسلطاتٍ مُطلقة فكثير منها يستريح للتعامل مع ترامب الذي لا يردّد نفاق أسلافه من الرؤساء الديموقراطيين عن تغيير الشرق الأوسط وجعله ديموقراطيًّا.
أعطى ترامب ضمنًا الضوء الأخضر لهؤلاء المرشّحين في إطلاق مزيد من الصدمة والرعب عند الفلسطينيين فيُطالب بعض المرشحين بضم الضفّة الغربيّة لإسرائيل، ويريد البعض الآخر أن يبحث الفلسطينيون عن قطعة أرض في العالم يقيمون فيها دولتهم ويتركون وطنهم للمحتل. كما سمح للسيناتور ليندسي غراهام أحد أهم قادة الحزب الجمهوري بأن يبعث برسالة تخويف مماثلة للإيرانيين بدعوته نتنياهو لتدمير البرنامج النووي الإسرائيلي بمعنى أنّ هذا الخيار المتطرّف موجود على الطاولة وليس مستبعدًا.
٢ – سيناريو الركود الديبلوماسي والتصعيد العسكري
هذا السيناريو على المدى القصير، وقد ينتهي في الغالب قبل تنصيب ترامب في ٢٠ يناير/كانون الثاني ٢٠٢٥، مرتبط بعاملَيْن: الأول هو تعهّد نتنياهو بإعطاء المنتخب ترامب وليس المنصرف بايدن هديّة سياسيّة بوقف الحرب في جبهة الشمال مع لبنان. العامل الثاني هو اتفاق ترامب ونتنياهو على استراتيجيّة التفاوض تحت النار أو ما يسمّيه الاسرائيليون استراتيجيّة تركيع “حزب الله” والحصول على صورة نصر يجبر الحزب على قبول اتفاقٍ ملغوم عرضته واشنطن على بيروت وبالتحديد على نبيه برّي المفوّض سياسيًّا من “حزب الله”.
يمكن إعطاء العرب دويلة فلسطينية ممزّقة منزوعة السلاح ومستلب منها أجزاء رئيسية من الضفّة الغربيّة
يقضي هذا السيناريو بإبطاء نتنياهو لجهد وماراثون الأمتار الأخيرة الذي تبذله الإدارة المنصرفة “لتحقيق وقفٍ لإطلاق النار على إحدى الجبهتين غزّة أو لبنان، أو إطلاق سراح كل أو بعض المخطوفين لتبييض صورة فشلها المخزي في المنطقة”. وإبطاء الحركة الديبلوماسية حتى يأتي ترامب، وتصعيد العمل العسكري في لبنان إما لقلب الحاضنة الشيعية على الحزب بالنزوح وتدمير ممتلكاتها بالغارات الجويّة أو باحتلال بَرّي لمنطقة ذات مغزى سياسي مثل منطقة الخيام. أما في غزّة، فسيستمر تصعيد حرب الإبادة والانتقال من هدف تفكيك كتائب “حماس” و”الجهاد” إلى تصفية حتى الخلايا الصغيرة المتفرّقة.
٣ – سيناريو المقايضة والصفقات واستيعاب متغيّرات المنطقة بعد ٧ أكتوبر
هذا السيناريو هو الأطول مدى والذي قد تتحقّق فيه فعلًا أهداف استراتيجية ترامب. فالتخويف والرّدع عن طريق الرسائل وإبطاء العمل الديبلوماسي لحين فرض حرب الإبادة حقائق إسرائيلية على الأرض في جبهتّي الحرب، لا يعني بالضرورة أنّ ما جاء فيهما من أطماع استراتيجيّة على حساب العرب هو الذي يريده ترامب بشكل كامل، بل قد تُجرى عليه تغييرات.
هنا ستظهر بجوار صورة ترامب المُخيف ترامب التاجر البارع في عقد الصفقات الرابحة وإيهام جميع الأطراف بأنّ الكل حصل على مكسب من هذه الصفقات. التاجر هنا يعرف أنّ “صفقة القرن” التي طرحها في ولايته الأولى تحتاج إلى تغييرات ستكون شكليّة، ولكن يمكنه تمريرها للعرب الذين يتلهّفون مثله على الانتهاء من القضية الفلسطينية. الفكرة هنا واضحة وهي أنّ أهم إنجاز فعله “طوفان الأقصى” هو إفهام الجميع أنّه لا يمكن تجاوز القضيّة الفلسطينيّة من دون حل إذا كان الهدف هو الوصول للتطبيع الإسرائيلي مع السعودية وآخرين وترسيخ هيمنة إسرائيلية على حلف يشارك فيه العرب ضد إيران. الفكرة هي أنّ المطلوب محو القضيّة الفلسطينيّة وليس الفلسطينيين وبالتالي يمكن إعطاء العرب ما يُسمّى بمسارٍ موثوق لدولة فلسطينيّة، ولكن هذه الدولة لن تكون أبدًا دولة المبادرة العربية وعلى كامل الأراضي المحتلّة (بعد ٦٧) بل دويلة ممزّقة منزوعة السلاح ومستلب منها أجزاء رئيسية من الضفّة الغربيّة.
مِن المقايضات الممكنة المتدرّجة:
– إقناع نتنياهو بوقف الحرب مقابل إعلان مبدئي من الرياض بأنها عادت لمسار التطبيع الذي كان قد تسارع بعد اتفاق “ممر بهارات” وأوقفه “طوفان الأقصى”.
– إعطاء نتنياهو اعترافًا أميركيًا رسميًّا بالاستيلاء على كل أو معظم غور الأردن في مقابل قبوله بمسار نحو دويلة فلسطينيّة تحفظ ماء وجه السلطة الفلسطينيّة والحكومات العربية أمام شعوبها.
سيناريوات غبن الحقّ الفلسطيني ستقود إلى دورة الانفجار والعنف عينها التي تعرفها المنطقة منذ العام ٨٢
– إعطاء الريّاض المشروع النووي السلمي والتحالف الدفاعي مع واشنطن وإزالة تحفّظ نتنياهو على كليهما في مقابل أن يأخذ الأخير جائزة التطبيع الإبراهيمي مع السعودية.
– ترامب التاجر المولع بالربح سيعطي منطقة الخليج الغنيّة أولوية على باقي مناطق العالم العربي عبر منحها دورًا أكبر في أي تسوية للقضيّة الفلسطينيّة. والتركيز على هذه المنطقة سيحقّق له أكبر قدر من الاستفادة من الفوائض الماليّة وشراء الأسلحة.
هذه السيناريوات إذا طُبِّقت بحذافيرها خاصة في غبن الحقّ الفلسطيني ستقود إلى دورة الانفجار والعنف عينها التي تعرفها المنطقة منذ العام ٨٢. تسويات ظالمة يعقبها انفجار وانتفاض… تليها فترة هدوء ثم انفجار وهكذا دواليْك.
(نقلا عن “عروبة 22”)