شرعيّة “7 أكتوبر”… مرّة أُخرى!

عبد الله السناوي

عند بدايةِ المَشهدِ التَّاريخي، بدت عمليَّة “طوفان الأقصَى” في 7 أكتوبر/تشرين الأوَّل (2023) انقلابًا تاريخيًّا مُتكامِلَ الأرْكان بالصِّراعِ المُحتدمِ على مستقبلِ ومصيرِ القَضيَّة الفِلسطينيَّة. ارتفعت الثِّقةُ العَامَّةُ في العَالم العَربي بقُدرتِه على النُّهوض من تحتِ الرَّماد… واهتزَّت ثقةُ إسرائيل في جيشِها وأمنِها ومستقبلِها، كما لم يحدُثْ من قبْل. ثَبُتَ مُجَدَّدًا في المَيْدَان أنَّه يُمكن هزيمتَها وإذْلالَ جيشِها.

لا يَصُحُّ نِسيانُ هذِه الحَقيقة… أيًّا كانت مُتغيّرات السّياسة وعَواقِبها. يُرادُ الآن إعادةُ قراءةِ المَشْهَدِ على نحوٍ مُغايرٍ؛ عمليَّةُ السَّابع من أكتوبر خطيئةٌ لا تُغتفر وإسرائيل قوّةٌ لا تُقهر!

الحقيقةُ التي يَجب أنْ تُقَالَ إنَّه لوْلا الدّعم الأميركي شِبْه المُطْلَق عسكريًّا واستخباراتيًّا وسياسيًّا لما أمكنَ لإسرائيل أنْ تحتويَ بمُفردِها الآثار المُدَمِّرَة على تماسُكِها الدّاخلي بأثرِ عمليّة السّابع من أكتوبر ولا تخفيف التّدهور المُريع في صُورتِها أمامَ العالَم.

أفضلُ ما يُنْسَبُ لعمليّة السَّابع من أكتوبر أنَّها أعادت تعريفَ القَضيَّة الفلسطينيَّة كقضيَّةٍ إنسانيَّة

لم يَكُنْ مسموحًا أميركيًّا أن تَفقدَ حليفتَها الرَّئيسيَّة في الشّرق الأوسط قدرتَها على إخافةِ وردعِ ما حوْلها.

ثم تَكَفَّلَ التّخاذُلُ العَربي المُريعُ في رفعِ مَنسوبِ التَّنكيل بالشَّعب الفِلسطيني، تقتيلًا وتجويعًا وإذلالًا، إلى حدودٍ غيْر مَسبوقَة من دون خِشيَة ردّ أو شِبْه ردّ.

لا يصحّ محاكمةُ الضّحيّة وإنْكارُ أي مسؤوليّة عمّا وصلَت إليْه الأحوال والتّراجعات في العَالم العربي حتَّى باتَ ممكنًا أن يقفَ على أعتابِ حِقْبَةٍ إسرائيليَّةٍ تُطلّ برأسِها.

لا يَصُحُّ بالتَّجاهُلِ أو التَّجْهيل نَفْيُ الضَّرَرِ الفادحِ الَذي لَحِقَ بصورةِ إسرائيل جرّاء جرائمِها الوَحشيَّة في غزَّة.

لم يَعُدْ ممكِنًا تسويغ صورةِ الدَّولةِ الحديثَة، واحة الدِّيموقراطيَّة في محيطٍ عربيٍ مُتخلِّفٍ ومُستبدٍّ، أو صورةِ الدَّولة الصَّغيرة المُسالِمَة، الّتي يتربَّص بوجودِها ومُستقبلِها العرب بداعي “العداء للسَّاميَّة”. ولا عاد مُمْكِنًا التَّجهيل بالمعاناةِ الفلسطينيَّة الطَّويلة، تهجيرًا قسْريًّا وفصْلًا عُنصريًّا، أو إنكار أحقِّية شعبِها في تقريرِ مصيرِه بنفسِه.

أفضلُ ما يُنْسَبُ لعمليّةِ السَّابع من أكتوبر أنَّها أعادَت تعريفَ القَضيَّةِ الفلسطينيَّةِ كقضيَّةٍ إنسانيَّةٍ تستحقُّ الدَّعمَ والإسنادَ وقضيَّةِ تحرُّرٍ وطني عادلَة ومحقَّة لشعبٍ رازحٍ تحت الاحتلال يَطلبُ حقَّه في الحرِّيّة.

هذا كلام له ما بعدَه، يَستحيل تمامًا على الإلغاء والحذف.

من عمقِ المأساةِ تبدَّت موجاتُ الغضبِ في الشَّوارع والجامعات الغربيَّة داعيةً لوقفِ الحربِ على غزَّة وعقابِ إسرائيل على جرائمِها بحقِّ الإنسانيَّة.

لا بقاء السّلطة على أحوالِها مقبول ولا إلغاء المقاومة ممكن

كانت تِلك هزيمة استراتيجيّة أُخرى لإسرائيل في صورتِها وأوزانِها لا يمكن ترميمُها بدعاياتٍ في الفَراغ.

تجد الدَّولةُ العبْريَّة نفسَها الآن بوضع الدّولةِ “المَنبوذةِ” و”المَارِقةِ”، التي تتهدَّدُها المُلاحقات القَضائيّة، أمام محكمتَيْ “العدل الدّوليّة” بتهمة الإبادة الجَماعيّة و”الجِنائيّة الدّوليّة” بتهمة ارتكاب رئيس وزرائِها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعها السابق يوآف غالانت جرائمَ حربٍ استدعَت استصدارَ مذكِّرتَيْ توْقيف بحقِّهِمَا.

هذه كلّها حقائق لا يصحُّ أن تغيبَ وسْط التَّراجعِ الفادح على أكثر من جبهة.

وِفق القانون الدَّولي فإنّ المُقاومةَ حقّ أصيل ومشروع للدُّول الواقعةِ تحت الاحتلال. طالما هناك احتلالٌ تَكْتَسِبُ المُقاوَماتُ شرعيّتَها.

بأيْ نظَرٍ في احتمالات وسيناريوات ما بعد الحرب على غزَّة، لا يمكنُ العودةَ إلى ما قبل السَّابع من أكتوبر.

كلُّ شيء سوف يختلفُ في حساباتِ وموازينِ القِوى داخل البيت الفلسطيني، أدْوارُ السّلطة ومستقبلُ جماعاتِ المقاومة، برامجُها وأوزانُها. لا بقاء السّلطة على أحوالِها مقبول… ولا إلغاء المقاومة ممكن.

المُواجهاتُ الجاريَة الآن بين فصائلِ المُقاومة والسّلطة الفلسطينيَّةِ في الضَّفَّة الغربيَّة بتوقيتِها وأهدافِها تبدو كأنَّها رسالة مسبقة إلى الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب قبل تنصيبِه رسميًّا في 20 يناير/كانون الثّاني الحالي، أنَّ وجودَها أكثر فائدةٍ للأمن الإسرائيلي من تقويضِها بإعلانِ السِّيادة الإسرائيليَّةِ على الضَّفَّةِ الغربيَّة.

إنَّنَا أمامَ صفحةٍ جديدةٍ في التَّاريخ السِّياسي الفِلسطيني.

العالمُ العربي بدورِه سوف تختلفُ معادَلاتُه بِأًثَرِ التَّفاعلاتِ في بنيتِه المُعلنَة وغيْرِ المُعلنَة… والمُقارباتُ الدَّوليَّة للقَضيَّةِ الفلسطينيَّةِ قد تنالُها تغييراتٌ جوهريّة تضغط للتّوصّل إلى حلٍ سياسي، بغضِّ النَّظر عن مقارباتِ “ترامب”.

نقلا عن عروبة 22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *