قد يكون الخطأُ السّياسيّ الجسيم الذي ارتكبه الرّئيسُ السوري السّابق بشّار الأسد، ودفَع ثمنَه غالياً النّظام السّياسيّ برمّته، موقفَه السلبيّ من مبدأ التّسويّة السّياسيّة للأزمة السّورية وإباءَتَه إطلاق حوارٍ وطنيٍّ موسَّع يتناول أمّهات المسائل التي انفجر حولها الصّراع: الدّستور، التّعدّديّة السّياسيّة، حقوق الإنسان وحرّيّة التّعبير، احتكار الحزب الواحد للسّلطة، تشكيل حكومة وطنيّة تمثيليّة…، وسوى ذلك من المطالب التي كانت تتردّد في أوساط القوى السّياسيّة المدنية السّوريّة بدءاً من ربيع العام 2011، بل لم يكن كثير منها محل اعتراضٍ من قِبَل بعض رجالات الدّولة والسّياسيّين القريبين من مركز النّظام.
ربّما كان تردُّد النّظام في شأن الحوار الوطنيّ ورفضُه الذّهابَ إلى خيار التسويّة السّياسيّة تعبيراً عن غَلَبةِ رأي فريقٍ فيه يعتقد أنّ إمكان استيعاب الأزمة ما زال متاحاً لدمشق من غير اضطرارٍ منها لتقديم تنازلات، وأنّ قليلاً من الممانعة السّياسيّة كفيل بإضعاف فكرة التّسويّة وتوهين قوّة المدافعين عنها خياراً وحيداً.
وربّما كان ثمرةً لبعض الشّعور بالأمان بعد التّدخّل العسكريّ الرّوسي في الحرب، وما أنتجه من تغييرٍ في ميزان القوى القتاليّ لمصلحة الجيش السوريّ، على نحوٍ أَوحى لبعض أركان النّظام بارتفاع أسباب الضّغط عليه لحمله على قبول التّسويّة التي لا يرغب فيها. وقد يكون وراء ذلك شعور من النّظام بأنّ أيّ تنازُلٍ سياسيٍّ منه لخصومه الدّاخليّين لن يكون، في حساب الأشياء، إلاّ تنازلاً لتركيا…، كما قد تكون خلف إباءَته خيارَ التّسويّة اعتبارات أخرى.
ولقد تبيّن، في المطاف الأخير، أنّ رفض الذهاب إلى التّسويّة كان مسلكاً خاطئاً غيرَ محسوبٍ من دمشق، وكانت نتائجُه فادحةً على النّظام بعد أنِ استفحلتِ الأزمةُ إلى حدودٍ اعتاصت فيها على الاستيعاب. ولأنّ قراءة دمشق لِمَا يجري في الدّاخل السّوريّ والمحيطِ والعالم ما كانت صائبة، فقد ترتّب عن ذلك تفويت منها لفُرصٍ عدّة كان يمكن اغتنامُها لإنتاج مَخْرَجٍ ممّا تعيش فيه البلاد.
هكذا فوَّت النّظامُ على نفسه فرصة حوارٍ وطنيّ حقيقيّ مع المعارضة المدنيّة، في المراحل الأولى للانتفاضة المدنيّة، حيث كانت التّدخّلاتُ الأجنبيّة في الأزمة أقلَّ حدّةً ممّا صارت إليه بَعْداً، وحيث الاحتجاجاتُ الشّعبيّة لم تكن قد تعسْكَرت بعد ومالت نحو خيار العنف المسلّح. ثمّ لم يقرأ جيّداً ما يعنيه صدور قرارٍ من مجلس الأمن الرقم (2254) بموافقة روسيا والصّين يُلْزِمه بخيار التّسويّة السّياسيّة ويحاصِرُه به لأمدٍ طويل.
وأخيراً لم يأخذ في الحسبان المتغيّرَ الدّولي الكبير الذي مثّلَهُ دخول روسيا حربها مع أوكرانيا، ومن ورائها الغرب الأطلسيّ، وما يرتّبه عليها ذلك الدّخولُ من حاجةٍ إلى نقل قوّاتها وعتادها من سوريا إلى الجبهة الأوكرانيّة، ومن حاجةٍ إلى تغييرٍ في أولويّاتها السّياسيّة والاستراتيجيّة تتراجع في سُلَّمِه مكانة سوريا…
لم يكن غرضُنا إجراء جَرْدةِ حسابٍ لأخطاء النّظام في تقديراته السّياسيّة الدّاخليّة تجاه الأزمة المستفحلة في البلاد، وإنّما كان يَعْنينا من الفِقَر السّابقة تسليطُ الضّوء على مركزيّة مبدأ الحوار الوطنيّ والتّوافُقِ السّياسيّ الدّاخليّ سبيلاً إلى إنتاج الاستقرار والسّلْم المدنيّة وبناء الدّولة، بمقدار ما يعنينا أن نشدِّد على أنّ التّنكُّب عن هذا السّبيل، وركوبَ أوهام القوّة واحتكارِ السّياسة والسّلطة آخذٌ البلادَ إلى التّأزّم السّياسيّ والصّراعات المنفلِتة من كلِّ عِقال. وإذا جاز أن يقال هذا نقْداً لموقف النّظام السّابق من الأزمة، فهو يجوز اليوم أكثر من ذي قبل.
إنّ إعادة بناء سوريا، دولةً ومجتمعاً، وإنتاجَ شروط السِّلم المدنيّة والاستقرار السّياسيّ فيها، ورتْقَ الفُتوق والشّروخ في نسيجِها الاجتماعيّ ووحدتها الوطنيّة، ودرءَ مخاطر التّقسيم عنها والحفاظَ على وحدتها الكيانيّة، وتحرير أراضيها المحتلّة… مهمّاتٌ تمتنع على السّوريّين إنْ لم يفيئوا إلى حوارٍ وطنيّ صادقٍ وحقيقيّ موسَّع بين قُواهُم السّياسيّة والاجتماعيّة كافّة يتناول بالبحث مستقبلَ البلاد وقواعدَ بناء نظامٍ سياسيٍّ جديد وإنتاجِ سلطة متوافَق عليها. وعلى مثل هذا الحوار أن يجريَ على نحوٍ لا يستثني فريقاً تحت أيّ ظرف، وبعيداً من كلّ أسلوبٍ من أساليب العزل والإقصاء.
سوريا، اليوم، في حاجة إلى أبنائها جميعاً حاجتَها إلى وحدتها لكفّ المخاطرِ عنها وإعادة بناء نفسها.
نقلا عن الخليج