سالم أبورخا
قبل أيام مرت الذكرى الثانية عشر على رحيل الموسيقار الكبير عمار الشريعي هذا الفنان المعجزة الذى جعل للموسيقي رونق إبداعي خاص ومميز،
هو ليس بالكفيف الذي فقد بصره بل هو صاحب البصيرة العميقة التى جعلته يرى الكون والموسيقى رؤى العين.
إن عالم عمار الشريعي يفيض بهاء ونورا فيه كل صنوف المتعة النفسية فحينما الهمه الله البصيرة الثاقبة استطاع أن يرى مالا يره من يبصر ، فمنذ طفولته المبكرة في محافظة المنيا بصعيد مصر وفقدانه للبصر وهو يعمل على تطوير ذاته فقد اشترى له والده بيانو للعزف عليه بجانب مهارته في السباحة ، وفي مرحلة التعليم الثانوي عمل بقوة على تطوير مواهبه بمعدلات مرتفعة فتعلم العزف على الاورج والاكورديون والكمان والعود دفعة واحدة.
ولم يكتف بذلك فالعبقرية الإبداعية غالبا ما تسعى للمزيد فدرس التأليف الموسيقي عن طريق مدرسة هارلي سكول الأمريكية لتعليم المكفوفين بالمراسلة.
وفي عام ١٩٧٥ جاءت انطلاقته الأولى حيث قدم أول الحانه مع المطربة الراحلة مها صبري في أغنية ” أمسكوا الخشب ” التى أظهرت أننا أما عبقرية موسيقية مميزة تشق طريقها وبقوة رغم كل الإعاقات الموجودة متحديا فقدان بصره. واستمر ينسج خيوط عالمه الإبداعي بصبر وهدوء لتفتح له القمة بابها ثم يهل عام ١٩٧٩ ويحمل معه الإنطلاقة الحقيقية الكبرى لعمار الشريعي حيث أسند إليه تأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل الأيام عن قصة الدكتور طه حسين وجاءت الموسيقى معبرة جدا عن نفسه فهو يمر بنفس المعاناة ويحمل بداخله نفس الوجع ونفس الأمل. ثم يأتي عام ١٩٨٠ وهو يحمل في طياته إضافة إبداعية مازال صداها يتردد حتى الآن حيث قام عمار بوضع الموسيقى التصويرية لمسلسل” دموع في عيون وقحة” وهنا كانت نقطة التميز ولمع اسم عمار الشريعي كفنان متألق في لمسته الموسيقية التى تمنح العمل الدرامي رونق خاص وصورة درامية بديعة لفنان ملهم فهو ملك العود بامتياز تستطيع أن تلمح يده الممسكة بعوده من خلال استماعك لأي عمل درامي .
وعندما اتجه عمار الي السينما فقد دخلها بثقل غير اعتيادي ورصيد قوي من إبداع وتطوير للموسيقى يجعله في مقدمة صناع الموسيقى التصويرية، وفي ١٩٨٦ قدم تحفته الموسيقية الخالدة في فيلم “البرئ” محطما بذلك كل قواعد الكتابة الموسيقية ومؤسسا لفكر موسيقي جاعلا من ألام الناس معزوفة موسيقية يتغنون بها .
وحينما عاد إلى التلفزيون مرة أخرى قدم لنا تحفة فنية أخرى وهي موسيقى مسلسل ” رأفت الهجان ” تلك التحفة الخالدة التى صارت إحدى أشهر الأعمال الفنية حتى اليوم وكانت بداية دخول عمار مرحلة النضج الفنى التى وضعته في دائرة متقاربة بين الإبداع والتمكن ، ويلاحظ ذلك في موسيقى مسلسل ” ارابيسك ” استطاع أن ينقل لنا بموسيقاه معاني تختص ليس فقط بفن الارابيسك بل قصد أن يوضح أن الأصالة باقية في الشخصية المصرية فقد استخدم آلة القانون كأساس موحد مع بعض الوتريات في تلاحم مع آلة العود لتضع الصورة كتصميم لفكرة المشهد ولعل موسيقى مسلسل “حديث الصباح والمساء”بمثابة البصلة التى تسير بنا نحو فكر عمارالشريعي في رؤية الموسيقى فهو نسج المشهد في عقله ثم تصديره إلى بصيرته ومنها إلى الآلات المختلفة لتمنح المشهد الدرامي حياة وروح.
وفى الأغنية قدم الشريعي عشرات الألحان المغناة بأصوات عمالقة الطرب على اختلاف مناهجهم ومساحات أصواتهم فلا تخلو أغنية من أغانيه من آلة العود والقانون التى تجعل ألحانه لها طابع خاص ومميز ولازلت حتى الآن أبحث عن السر الذي يجعل العود يطيع أفكار عمار الشريعي ويقدمها بدقة متناهية يصل إلى حد الإبهار و الاعجاز الموسيقي الذي يمنحك أمل في الغد هكذا ستستشعره بسهولة في موسيقى مسلسل ” العائلة “،
وحينما فكر أن بمنح محبيه وجمهوره العريض فرصة أن يتذوقوا الموسيقى ويقرأوا لغتها ومعانيها الرسمية قدم لنا برنامجه الأشهر ” غواص في بحر النغم ” وبإعجاز من عبقريته جعلنا نغوص معه في بحار فنية وأمواج موسيقية لا تهدأ.
رومانسية والموسيقى لدى عمار الشريعي مرتبطة بشكل وثيق يشعر به، ففي مسلسل ” امرأة من زمن الحب ” استطاع أن يقدم صورة رومانسية للزمن والأشخاص وللحقية والكون وأن ترى بالروح دراما واضحة المعالم حينما كان يحتضن العود بين ذراعيه فهو بالتأكيد كان يمنحه قوة ولمحة من وجدانه يجعل لموسيقاه سطوة فريدة تستشعرها عندما تلامس آذانك.
الحديث يطول عن أعمال عمل الشريعي وفنه، فهو باقي في الذاكرة والقلب والوجدان برغم رحيله مازل ينضح في كل ركن من أركان كصاحب بصمة فريدة لن يكررها الزمن