حمدين صباحي
انتصار غزة ليس مجرد انتصار سياسي ، ليس مجرد انتصار بالمعنى المعروف استراتيجياً وهو كسر إرادة العدو وإكراهه على التراجع دون تحقيق أهدافه المعلنة ، ليس نصراً فقط بمعنى عجز العدو عن تحقيق الأهداف ،بل هو انتصار أوسع وأعمق وأعظم دلالة وأبعد أثراً وأكثر إلهاماً ، إنه انتصار للحياة في مواجهة الموت ، إنه انتصار للبقاء في مواجهة الإبادة ، انتصار للتمسك بالأرض في مواجهة التهجير ، انتصار لمعنى الصمود في مواجهة الانكسار ، انتصار للقيم الأخلاقية في مواجهة التوحش وأحط النوازع التي مثّلها العدوان ، هو انتصار للمعنى في مواجهة هذا الخواء الذي يريد أن يلّفنا ، هو انتصار للأمل في مواجهة اليأس ، وهو انتصار الدم على السيف ، وانتصار الشهداء على القتلة وانتصار أولياء الكرامة على مهانة الاستسلام.
ما أروع انتصار غزة وما أعمقه وما أجلّ آثاره .
هذا يوم الفرح المستحق لغزة العظيمة المنتصرة بصمودها الأسطوري ، للأمة وغزة قلبها ، عاصمة شرفها ، ومناط أملها ، هذا يوم ينكسر فيه العدوان أمام عظمة الصمود وبسالة المقاومة ، وعظم التضحيات ، هذا يوم لنستذكر أفضلنا وأعظمنا شهداءنا الذين قدموا دمهم الزكي درءاً لعدوان همجي وإبادة جماعية ، وانتصاراً في وجه الاستكبار الصهيوني المدعوم أمريكياً حتى انكسر.
هذا يوم تحية الشهداء وتحية المصابين والجرحى وتحية الباسلين المقاومين الصامدين ضد الحصار وافتقاد اللقمة والدواء وشربة الماء .
هذا يوم لتدرك أمتنا العربية روعة صمود ابنائها المقاومين وقدرتهم أن يردوا عن هذه الأمة كل هذا التوحش الصهيوني – الأمريكي وأن يظلوا رغم عنف القصف والدمار واقفين صامدين مرفوعي الرأس لا يرفعون راية بيضاء ، ولا تنكسر لهم إرادة.
هذا يوم التحية لغزة التي تستحق أن تكون اليوم عاصمة الكرامة العربية ، وعاصمة الشرف العربي وعاصمة المقاومة العربية.
هو يوم التحية لفلسطين ، كل فلسطين ، للمقاومة في لبنان العظيم ، للمقاومة في اليمن والعراق وفي إيران ، لكل الذين وقفوا مع الحق والنبل وأعطوا وقدموا مالاً ودعماً وسلاحاً وكلمة ودعاء من القلب.
هذا يوم نستذكر فيه ان “طوفان الاقصى” قد زلزل يوم 7 اكتوبر 2023 بنية هذا الكيان ، وهو زلزال لن يشفى الكيان منه حتى تتفاعل آثاره العظيمة وتوابعه وصولاً الى تفكيك هذا الكيان العدواني العنصري .
هذا يوم لنقول لأنفسنا لقد قصرنا في حق فلسطين وغزة والمقاومة ، لأن بعض أنظمتنا حاصرت شعوبنا، ولأن بعض انظمتنا خذلت المقاومة ، ولأن بعض أنظمتنا صمتت وكان صمتها ترخيصاً بالقتل أعطي للكيان الصهيوني وداعميه من أمريكا والغرب .
هذا يوم لنقول لأنفسنا إن ما قصرنا فيه ينبغي أن نعوّضه ، فعندما تصمت المدافع لا ينتهي الصراع ، ليست إلاّ هدنة تطول أو تقصر كما علمنا قرن من الصراع العربي – الصهيوني سيتجدد ، وأشكال المقاومة لهذا الكيان حتى استئصاله أوسع من الحرب بالسلاح ، إنها فكرة وعقيدة ونهج وخطاب وممارسة سياسية وثقافية واقتصادية ، سينفتح الباب الآن أمام مرحلة تصمت فيها المدافع إلى حين ، لكن سيستعر الصراع العربي – الصهيوني بأساليبه السياسية والثقافية ، وهنا فإننا ندعو جماهير أمتنا وقواها الحيّة إلى أن تتهيأ أولاً لمقاومة التطبيع في مواجهة ما يخطط من سلام إبراهيمي ليتسع ليشمل أنظمة عربية جديدة ، وثانياً استمرار معركة المقاطعة التي أثبتت جدواها والتزمت أجيال جديدة من أمتنا أن الاستمرار في مقاومة التطبيع ومقاطعة العدو وداعميه واجب أول الآن.
ثالثاً الاستمرار في دعم المقاومة ، النهج والفكرة والخط السياسي والخطاب الثقافي والرؤية حتى تتجدد قدرة هذه المقاومة على أن تواصل دورها بالسلاح .
وهذا يوم أيضاً لنستذكر أن إعمار ما خرّبه العدوان في غزة والضفة ، في جنوب لبنان وفي كل موقع عربي هو واجب ينبغي أن نتنادى إليه ونساهم فيه ، ثم من واجبنا تأكيد ما فضحه هذا العدوان من تجرد هذا العدو من كل قيمة إنسانية وارتكابه للإبادة الجماعية وإدانته في المحاكم الجنائية الدولية ومواصلة السعي لعزله في المجتمع الدولي ومحاصرته وعقابه وألا يفلت هذا العدو المجرم ولا صانعي قراره من العقاب .
إنه يوم لنجدّد العهد لأعظمنا وأسمانا شهدائنا وبالأخص قادتنا الشهداء الكبار العظام الذين زينوا تاريخنا العربي وسيبقون اقماراً مضيئة في ليله وشمساً ساطعة في نهاره ، السيد حسن نصر الله والشهيد إسماعيل هنية والشهيد البطل يحي السنوار والشهيد صالح العاروري وكل شهدائنا من أكثرهم مكانة إلى أعظمهم عطاءً ، من الصغار و الكبار ، من الجنود والقادة ، من النساء والرجال.
هذا يوم لإكبارهم ولكي نقول لهم إن واجب هذه الأمة أن تحفظ لدمهم العظيم ما أنجزه ونواصل طريقهم حتى نصر مكتمل لا يكون إلا بانتهاء وجود هذا الكيان على أرضنا التي اغتصبها ، وسوف يخرج منها بفضل المقاومة وبفضل الشعب .
هذا يوم لنعاود الإيمان بقيمة أمتنا وقدرتها فإن التجلي الأعظم في صمود المقاومة وبالأخص في غزة العظيمة ، هذا الصمود الأسطوري ينبئنا أن ما فعلته غزة العظيمة ليس أسطورة أو معجزة لأنه فوق طاقة البشر ، بل لأنه يثبت أن طاقة البشر يمكن أن تتسع لكل هذه العظمة وكل هذا الصمود.
لقد أعادت غزة تعريف مدى قدرة الإنسان ، هذا الكائن العظيم، على أن ينتصر على الأهوال ويبقى عزيزاً مرفوع الرأس قوي الإرادة منتصراً بداخله فوق هذا الخراب الكبير ، ذلك أن خراب المباني عمّر هذه النفوس وألهم العالم بقيمة عظيمة للإنسان ، قدرة جديدة للإنسان حدود جديدة لعظمة وقدرة وكفاءة وإمكانية الإنسان ، هذا هو الدرس الملهم الذي تتعلم منه الإنسانية وتتعلم أمتنا العربية أن تستعيد أفضل ما فيها بفضل أفضل ما فيها :المقاومة .
غزة … لك النصر لك الإكبار … بك الفخر …
يا أيها الشعب العظيم سنواصل طريقنا لتثبيت نصرنا ونحو استرداد أرضنا حرية كاملة لفلسطين التي هي جوهر نضالنا العربي ومقصده الكبير.
القاهرة 19 يناير 2025