د. أحمد يوسف أحمد
على مدى ما زاد على سنة كتبت عن أبعاد كثيرة للملحمة التى سطرتها غزة فى النضال من أجل الحرية، بدءًا بالصمود الأسطورى لمقاومتها، وقدرتها على إيقاع خسائر مؤلمة بعدوها، وصولًا إلى الأمس القريب الذى أتت فيه المقاومة بما يشبه المعجزات، ومرورًا بالأداء البطولى لأهل غزة وهم يشيعون جثامين شهدائهم، أو يبحثون بأيديهم وسط الدمار الهائل عن ضحايا يمكن إنقاذهم، أو يهرولون بهم إلى مستشفى قد تسعفهم، أو ينزحون مرة تلو الأخرى إلى المجهول، أو يتضورون جوعًا وعطشًا بسبب الحصار الخانق، أو يدهشوننا بمُدَرسة تنظم فصولًا تعليمية للأطفال وسط الدمار، أو شاب ينظم حفلات سمر لإسعادهم، أو فنان يرسم جداريات تسجل الملحمة الأسطورية لنضال غزة على ما تبقى من جدرانها، أو يصرون على استقبال رمضان ورفع تكبيرات صلاة العيد بذات البهجة التى تعودوا عليها قبل العدوان، لكننى لم أتخيل للحظة أنه سيأتى يوم أكتب فيه مقالة أشيد فيها بمنتج أكاديمى رفيع أعدته عناصر من النخبة الأكاديمية الغزاوية ، وهو العدد العاشر من مجلة «فكر» الفصلية التى تصدرها الحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلى، والذى يغطى أشهر يوليو – أغسطس – سبتمبر لعام 2024، وقد بدأت المفاجأة فى أثناء مكالمة هاتفية مع تلميذى وصديقى القدير الدكتور إبراهيم المصرى كنت أطمئن فيها عليه وعلى أسرته، خاصة وقد فقد منزله ونزح غير مرة كغيره من أهل غزة الأبطال، وفى معرض تناولنا جرائم إسرائيل وجدته يحدثنى عن جهوده وزملائه لتوثيق هذه الجرائم ونشرها فى العدد الجديد من المجلة التى يرأس تحريرها، بينما يتولى الإشراف العام عليها الأكاديمى والمثقف الفلسطينى البارز الدكتور رمزى عودة أمين عام الحملة، وظننت للوهلة الأولى أن إبراهيم يتحدث عن مشروع مستقبلى، فإذا به يخبرنى بأن الإعداد للعدد الجديد يسير على قدم وساق، وطلبت منه على سبيل الرجاء أن يزودنى به حين صدوره، ويعلم الله أننى كنت أشك فى أن تسمح أعمال الإبادة الجماعية التى تجرى بخروج العمل إلى النور، فإذا به يفاجئنى منذ أيام بصدور العدد ويزودنى بنسخة إلكترونية كاملة منه.
تضمن العدد ملفًا كاملًا لشهادات حية فى التأريخ الشفهى لحرب الإبادة فى غزة، علًاوة على عدد من التقارير المهمة والدراسات الرصينة عن ملحمة المقاومة الأسطورية، ولقد لفتتنى افتتاحية المجلة التى كتبها الدكتور رمزى عودة بعنوان «مازال بمقدور غزة إنتاج المعرفة»، وهو العنوان الذى اقتبست منه عنوان مقالتى اليوم، وأنقل من هذه الافتتاحية الرصينة قوله بعد أن استعرض جرائم إسرائيل: «..وبرغم هذه الإبادة الجماعية فإن غزة مازال بمقدورها أن تنتج المعرفة، لاسيما تلك المعرفة المقاومة للاحتلال، حيث يُعتبر هذا العدد الخاص بمجلة فكر خير مثال، ونتيجة أيضًا لإصرار المجتمع الأكاديمى فى قطاع غزة على إنتاج المعرفة من خلال تسجيل تاريخ شفهى لواقع الإبادة الجماعية فى القطاع. لقد أصر علماء وباحثو المجلة على إنتاج هذا العدد الخاص.. برغم كل الصعوبات الميدانية، مثل انقطاع التواصل وفقدان الإنترنت وفقدان القلم والورقة أيضًا، ومع ذلك نجحوا.. ولربما كان من الصعب علينا جميعًا تصور الكتابة فى زمن ترتجف فيه اليد، ويخفق فيه الفؤاد. فى زمن ينام الناس فيه فى العراء، وتجوع البطون، ويفقد الإنسان شهية الحياة إلا شهية الكتابة، حيث تبقى هى المسيطرة والمهيمنة»، ويواصل «إن هذا العدد.. يمثل كلمة غزة، وكلمة الأحرار فيها. إنه عدد النضال المعرفى وإرادة إنتاج المعرفة»، فهل بمقدورنا تمثل هذا المعنى الرائع حقًا؟ وهل دار بخلد أحد منا وهو يتابع القصف الوحشى الممنهج والمحاولات المستميتة لإنقاذ من يمكن إنقاذهم، والآلام التى تعتصر القلوب لفقد الأحباب، وأهوال الحصول على كسرة خبز أو شربة ماء، والحياة بين مطرقة المطر وسندان مياه الصرف الصحى أن هناك من يهتم بتسجيل الحقيقة؟ لكن هذا حدث بالفعل، وقدم لنا باحثو غزة الأبطال وثيقة تاريخية تمثل بعدًا فريدًا من أبعاد الصمود، وتسجل بأمانة ما وقع، لكى تبقى الذاكرة الوطنية حية متقدة، ويزيد الإصرار على استرداد الحقوق، ويتسلح الفلسطينيون بالعلم فى معركتهم المصيرية.
ثم يكتب الدكتور إبراهيم المصرى مقدمة لملف الشهادات الشفهية كمصدر تاريخى ويلقى الضوء على جدواها فى إثبات جرائم إسرائيل، ومن ثم العمل على عدم إفلاتها من العقاب، ويصف الشهادات بأنها روايات حقيقية دون مبالغة ثمة إجماع على صحتها ودقتها، والحقيقة أن أسلوب التأريخ الشفهى ذو مزايا منهجية واضحة، فهناك أحداث بالغة الأهمية تقع دون أن تغطيها وثائق من أى نوع، ولا يكون ممكنًا تسجيلها سوى بالرجوع لمن شاركوا فيها من البشر العاديين، وإذا كانت أدوات التسجيل بالصوت والصورة قد تمكنت من رصد العديد من الجرائم الإسرائيلية فإن أسلوب التاريخ الشفهى وحده هو القادر على رسم الصورة الكاملة لما حدث، وسبر أغواره، وقد تذكرت على سبيل المثال مذكرات المناضل الصلب خالد الذكر شفيق الحوت عن رحلة الخروج من فلسطين بعد نكبة 1948، وكيف مثلت هذه المذكرات توثيقًا لأحداث لا يمكن تعويضه بأى مصدر مكتبى، ومن خلال الشهادات التى سجلتها المجلة من أفواه الأبطال الحقيقيين لملحمة غزة تتكشف أبعاد السلوك الإجرامى الإسرائيلى، والمعاناة الإنسانية الحقيقية التى كابدها أهل غزة وهم يُجبرون على النزوح غير مرة إلى المجهول، ويعانون الأهوال فى نزوحهم، ويصبح الحصول على خيمة حلمًا، وفقد الأحباب بالجملة واقعًا، ومجرد العثور على جثامينهم حدثًا مبهجًا، والعودة لدفء المنزل حيث الأشياء الصغيرة والذكريات الجميلة منتهى الأمل. تحية لغزة وأهلها وجماعتها الأكاديمية على كل هذه المعانى الجميلة التى تضىء حياتنا بالقدوة الحسنة والأمل الجميل فى مستقبل أفضل، وإنكم لمنتصرون بإذن الله فى معركتكم العادلة.
نقلا عن الأهرام