رباب يحيى
الكتاب: الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر
المؤلف: د.طاهر عبد الحكيم
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2020
دأب كثير من الباحثين المعاصرين على وصف الفلاح المصري بالخنوع للسلطة الغاشمة، وأنه يتحمل القهر والبطش والفساد ولا يحرك ساكناً، ولما كان هذا الفلاح يشكل تاريخياً الجسد الرئيسي لشعب مصر، فإن هذا الحكم ينسحب بالضرورة على مجمل الشخصية الوطنية المصرية، فهل حقاً هذه الدولة المركزية (مصر) ذات السلطة المطلقة، التي كانت تملك كل شئ بما في ذلك البشر، وقوة عملهم، وناتج عملهم، والتي استمرت منذ فجر التاريخ حتى الثورة العرابية عام 1882 قد طبعت الشخصية المصرية بطابع الخنوع، أو أن رفض الإنسان المصري للقهر من جانب هذه السلطة طبع شخصيته بطابع المقاومة؟
يقدم طاهر عبد الحكيم اجتهادات مهمة تسهم في الإجابة عن هذه الأسئلة في كتابه: “الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر”. وفيه يدحض فكرة خنوع الشخصية الوطنية المصرية للسلطة الغاشمة، وقد قسم الباحث الكتاب إلى قسمين: القسم الأول يتناول الشخصية المصرية في ظل الدولة المركزية.. والشخصية المصرية في ظل الملكية الخاصة،
يبرز عبد الحكيم رأي عباس محمود العقاد بأن موقف الإنسان المصري من السلطة يقوم دائما علي أساس من الشك والريبة وليس علي أساس من التقديس والخوف، وأن الفلاح كان دائما متحفزا للتغيير، غير أن الفلاح في ثورته يريد أن يري الصفوف حوله ولا يحب أن يخاطر وحده. وانطلاقا من هذا كانت جماعية العقل المصري, وليس الخضوع والميل للاستسلام، سبب فترات الاستقرار الطويلة نسبيا التي نلحظها في التاريخ المصري، رغم العسف والاضطهاد. وبالمثل فإن عمق الثورة، حينما تقوم، واتساعها وشمولها، يمكن رده إلي السبب نفسه، أي إلي جماعية العقل المصري التي هي النتاج الطبيعي لنمط الحياة المصرية عبر التاريخ، حيث لم يكن المصري ليستطيع أبدا أن يعيش حياة فردية، فالقرية هي دائماً عالمه، حيث يعمل عملاً جماعياً، ويعيش حياة جماعية، وأعمال الري والسيطرة على الفيضان، وحماية الرقعة الزراعية من غارات البدو، كلها مهام لم يكن من الممكن إنجازها إلا بعمل جماعي.
هذه الجماعية في العقل المصري هي وحدها التي كان من الممكن ـ حيث لا تكون الثورة ممكنة ـ أن تواجه القهر بالتحمل، ولكن هذا التحمل مشروط بألا يصل القهر إلى الدرجة التي يهدد فيها طبيعة الإنسان المصري وتكوينه.
يستدل الكاتب من الأدب “الشعبي” الذي يعود إلى الدولة القديمة والذي يعبر عن معاناة الشعب من الاستبداد والطغيان والظلم والفساد، عن مقاومة الشعب لكل ذلك، أو تطلعه للخلاص مما يعانيه.
في مقدمة الأمثلة على ذلك، كما يذكر المؤلف (ص 70): “أسطورة أوزوريس التي عاشت منذ ما قبل الأسرات، حتى اعتنق المصريون المسيحية، بل وامتدت بعض عناصر رئيسية من هذه الأسطورة في المسيحية ذاتها: ست، الملك الإله، الذي يخافه الناس ولا يحبونه، ذو اللون الأحمر الذي يكرهه المصريون، عدو الخير، يقتل بالخديعة والمكر أخاه أوزوريس طمعاً في عرشه وفي السيطرة على ملكه، وأوزيريس هو الملك الإله الذي أضفي عليه المصريون كل الفضائل والصفات الطيبة، فهو الذي يثبت دعائم العدل والحقيقة في كل الأماكن… وعندما تسعى إيزيس إلى أن تنجب من أوزوريس الميت “مُخلصاً” لمصر وللمصريين من الملك ـ الإله الشرير، فإن ذلك تعبير عن أمل الناس في أن يولد منهم ومن أوزوريس من يخلصهم من السلطة الجائرة.
سنجد الأمل في أن يبرز من بين الناس من يخلصهم يتردد بعد ذلك في تحذيرات الحكيم “إبور” في أواخر الدولة القديمة، ثم في نبوءات الكاهن “نفرر وهو” التي من الواضح أنها كتبت بعد غزو الهكسوس لمصر.
يقول المؤلف في صفحة (72): “يحذر إبور، الملك من أن كل شئ قد آل إلى الفوضى، وأن قوانين قاعة العدل قد ألقى بها ظهراً، فصارت الناس تدوسها بالأقدام في المحال العامة، والذي يحصد المحصول لا يعرف عنه شيئاً، ومن لم يحرث الأرض يملأ مخازنه.. ومن كان لصاً صار رب ثروة.. وفي الحق أن العدالة موجودة في البلاد باسمها فقط، وما يلقاه الناس حين يلتجئون إليها هو العسف”.
تعبر تحذيرات الحكيم إبور بقوة عن موقف الإنسان المصري من الدولة في ذلك الوقت، خاصة وأن الوثيقة التي تتضمن هذا الخطاب الملئ بالاتهامات للسلطة، تقول أن الحكيم إبور ألقى خطابه هذا أمام أحد الملوك وبحضور من يفترض أنهم حاشية الملك، وبذلك فإن هذه القطعة الأدبية تريد بشكل مباشر أن توضح أن هذه “الاتهامات الشعبية” التي حواها الخطاب كانت موجهة مباشرة ضد الدولة وعلى رأسها فرعون.
وعلى نفس النحو نجد قصة “الفلاح الفصيح”، وشكواه منقوشة على بردية محفوظة في متحف برلين، وقد أوردها الكاتب في صفحة (73)، وتتلخص في أن الفلاح “خون أنوب” من منطقة وادي النطرون حمل حميره ملحاً، وساقها جنوباً متجهاً إلى “إهناسيا” ليبادل الملح بالقمح، حتى إذا ما وصل إلى منطقة “بيرفيوفي” وجد هناك موظفاً اسمه “دجحوتي نخت”، يعمل عند مدير المقاطعة يقف على الشاطئ، وتحايل هذا الموظف حتى استولى على حمير الفلاح وحمولتها من الملح بحجة أنها أكلت من قمحه، ولما احتج الفلاح قطع “دجحوتي نخت” غصناً من شجرة وانهال به ضرباً عليه قائلاً له: “لا ترفع صوتك يا فلاح”، فقال له الفلاح: “تضربني وتسرق متاعي، ثم تسحب الشكوى من فمي؟”، واستمر الفلاح عشرة أيام يشكو أمام باب “دجحوتي نخت”، ولكن هذا لم يعبأ به، فاضطر الفلاح أن يتوجه إلى “رنسي مرو” رئيس ديوان فرعون، حيث قدم شكاواه التسعة، والتي كانت من الفصاحة والبلاغة بحيث أقنعت “رنسي مرو” في آخر الأمر أن يأمر برد حمير الفلاح وحمولتها من الملح له، وبمعاقبة الموظف “دجحوتي نخت”.
ومن هذه القصة نستطيع أن نتعرف على بعض السمات الأساسية للشخصية المصرية في ذلك الزمن:
أولاً: أن الفلاح عنيد ودؤوب وصبور في صراعه من أجل استعادة حقوقه، فبعد عشرة أيام من الوقوف أمام باب “دجحوتي” يحاول إقناعه برد حميره دون جدوى، يواصل الفلاح الجهد ولا ييأس، حتى ينجح أخيراً في مقابلة “رنسي ميرو” ويشرح له شكواه.
ثانياً: نلمس من هذه الشكوى، ملامح وعي شعبي تشكل بشأن ما يجب أن تكون عليه سياسة الدولة إزاء الشعب، فالشعب على لسان الفلاح خون أنوب، في شكواه، يحدد تصوره لواجبات الحكومة إزاء المواطنين: “أن تقضي على الظلم، وتقيم العدل، وتوفر الطعام والملبس والدفء، وأن تقف إلى جانب الفقير ضد ظالميه”.
إن موقف الإنسان المصري من استبداد السلطة المركزية، لم يقف عند حدود الشكوى، والمناجاة، بل تعداه إلى الفعل.. إلى التمرد والثورة:
الثورة الفلاحية الأولى:
في عام 2280 ق.م، في عهد الملك بيبي الثاني، شهدت مصر ثورة فلاحية شاملة، هي الثورة الأولى التي أمكن تسجيلها تاريخياً، وكان من نتائج هذه الثورة أنه أصبح من حق الفلاحين أن يبنوا المقابر لموتاهم، وأن يشاركوا في المواكب الدينية، وصار للفرد العادي حق استخدام الرموز الدينية التي كان يستخدمها الملك، وكانت حتى ذلك الوقت حكراً له، كما صار من حق الفلاح ممارسة الطقوس الدينية دون وصاية من الملك وبالتالي من كهنته”.
هذا النزوع للاستقلال، عن المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت ترفع الملك إلى مستوى الآلهة، كان مقروناً بموقف من المؤسسة السياسية ـ الإدارية القائمة، في ذلك الوقت، والتي كان الملك أيضاً على قمتها.
ففي تلك الثورة، امتنع الفلاحون عن دفع الضرائب، وهجموا على مخازن الحكومة ونهبوها، واقتحموا المكاتب الحكومية وبعثروا محتوياتها وأتلفوا سجلات المحاكم، وأحرقوا قصور الملك والأغنياء وفتحوا قبورهم وبعثروا أشلاءهم، ومعروفة جيداً لدى دارس الأدب المصري القديم بردية “نفرتي” التي يصور فيها الأحوال التي أدت إلى اندلاع الثورة ويقول فيها: “انظروا إلى الصناع، إنهم لا يعملون، فقد أضاع أعداء البلاد ما فيها من حرف، إن الذي يحصد الحصاد لا يعلم عنه شيئاً، وذلك الذي لم يحصد يملأ مخازنه بالغلال”. من المهم ملاحظة أن هذه البردية تتحدث عن الأرستقراطية الحاكمة، وعلى رأسها الملك ـ الإله بالطبع، باعتبار أفرادها “أعداء البلاد”.
وسنجد، فيما بعد، أن أية قداسة لن تمنع الفلاحين من العصيان والتمرد، ففي أيام رمسيس الثاني، ثاني ملوك الأسرة التاسعة عشر (1350 ـ 1200 ق.م)، أضرب الفلاحون المجندون للعمل في المحاجر وتوقفوا عن العمل، واضطر رمسيس الثاني إلى أن يتوجه إليهم في مقر العمل ويلقي فيهم خطاباً يضمنه ما يمكن أن نصنفه بأنه أول قانون عمل في التاريخ، حدد فيه رمسيس للعمال حقوقهم في الطعام والماء البارد للشرب، وفي الملبس والعطر، وحدد مدة العمل بشهر واحد بالتناوب لكل فلاح، وحق أهلهم سواء كانوا في الوجه البحري أم في الوجه القبلي في الحصول على الحبوب والفول والملح وما إلى ذلك.
يقول المؤلف في (صفحة 75):
“كان من أهم المكاسب التي حصل عليها الفلاحون، نتيجة لثوراتهم منذ 2280 ق.م، أن صار لهم ولكل العامة من المواطنين، الحق في إدخال أبنائهم إلى مدارس الموظفين، ويفسر ذلك انتشار الأدب الذي كان يعبر عن انتقادات الفلاحين لنظام الحكم ولكبار رجال الدولة، على عكس ما وصل إليه بعض الباحثين من استنتاجات مفادها أن الفلاح المصري لا يجرؤ على انتقاد السلطة”.
على مدى صفحات الكتاب يدلل الكاتب على هذه الحقيقة، وأن تاريخ مصر بعد ذلك ملئ بالعديد من الانتفاضات والثورات، البعض منها ذو طابع اجتماعي صرف، ضد سلطة مركزية محلية، والبعض الآخر له الطابع الوطني، فحرب “أحمس” ضد الهكسوس (1500 ق، م) كانت ثورة تحرر وطني، وكذلك حرب بساماتيك لتحرير مصر من الآشوريين (حوالي 663 ق.م).
وطوال حكم البطالمة الإغريق لمصر الذي استمر حوالي 300 سنة (332 ـ 30 ق.م) كانت هناك على الأقل ثلاث ثورات تحررية بقيادة أمراء طيبة.
ويرى المؤلف أن المسيحية المصرية كانت عبارة عن ثورة وطنية دائمة ضد حكم الرومانيين والبيزنطيين (30 ق.م ـ 640 ميلادية)، وكادت إحدى هذه الثورات تستولى على الأسكندرية وتقضي على حكم الرومانيين.
فالمؤلف يرى أن تحول المصريين عن ديانتهم القديمة إلى المسيحية، بمثابة شكل جديد من أشكال المقاومة ضد الظلم الاجتماعي، ومظهراً من مظاهر المقاومة الوطنية ضد الحكم الأجنبي الروماني، فالآلهة القديمة لم تستطع أن ترفع ظلماً، ولا الدعاء لها جعلها تنصر مظلوماً، مما جعل المجتمع يتشكك في دينه وآلهته، كما كان سلوك المؤسسة الدينية ذاتها دافعاً أكبر لهذا التشكك، فكهنة آمون سقطوا وطنياً ودينياً واجتماعياً بقبولهم أن يكونوا ركيزة محلية لحكم الإغريق ثم الرومانيين من بعدهم، وبمحاولتهم الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم بتحالفهم مع الأسكندر والبطالمة والرومانيين من بعد، ضد المقاومة الوطنية وقياداتها المتمثلة في أمراء طيبة، وجاء سقوط كهنة آمون السياسي والأدبي عندما حاولوا ترويض جماهير الشعب المصري على طاعة الحكام والمستغلين الأجانب.
بدءاً من الفتح العربي الإسلامي لمصر (640م) يمر حوالي الألف عام لا تتبلور خلالها أية قيادة قومية مصرية باستثناء قيادات الانتفاضات والتمردات الفلاحية التي بقيت كأهم مظهر من مظاهر استمرارية الشخصية الوطنية المصرية، إلى أن ظهرت فئة العلماء كقيادة وطنية في النصف الثاني من القرن السابع عشر.
خلال ما يقرب من السبعة قرون الأولى من تلك الفترة، كانت الغالبية العظمى من المصريين قد تحولت من المسيحية إلى الإسلام، واضمحلت اللغة القبطية لتحل محلها اللغة العربية، وطوال هذه الفترة توالت على مصر دول عديدة لم يكن فيها دولة واحدة مصرية، فمن الأمويين إلى العباسيين إلى الطولونيين والإخشيديين إلى الفاطميين فالأيوبيين فالمماليك فالعثمانيين، فالمماليك تحت ولاة عثمانيين إلى أسرة محمد علي الألبانية الأصل، بعض هذه الدول استقل بمصر، وبعضها شهد ازدهاراً في التجارة والحرف والزراعة، وبعضها جلبت سياساته خراباً ودمارا اقتصاديين وأوبئة ومجاعات، بعضها كانت له أمجاد عسكرية في صد غارات الصليبيين والمغول، وبعضها جعل من القاهرة عاصمة لامبراطورية واسعة، وبعضها انحط بمصر إلى مستوى الولاية التابعة.
فترة الولاة الأمويين (658 ـ 750)، شهدت ثورات فلاحية شاملة كادت إحداها تقضي على جيش عبدالملك بن مروان، وفيما بين عامي 813 و833، كانت مصر، أثناء هذه الفترة، تحت حكم العباسيين، قامت ثورات فلاحية عديدة، واضطر الخليفة المأمون أن يحضر بنفسه إلى مصر للإشراف على إخماد واحدة من أخطر تلك الثورات، إذ أنها استمرت وحدها ثمانية أشهر.
وعندما حاول الخلفاء الفاطميون إجبار المصريين على “التشيع”، بالمعنى المذهبي الكامل رفض المصريون ذلك، فقد أصدر الحاكم بأمر الله (996 ـ 1021) مرسوماً يقضي بسب أبي بكر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة الذين وقفوا موقفاً يتعارض مع ما تعتقده الشيعة بشأن وصية النبي محمد لعلي بن أبي طالب، وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم ذلك في المساجد والمقابر والحوانيت جهراً، لكن هذا المرسوم أثار المصريين وحدثت اضطرابات وتظاهر المصريون وحاصروا قصر الحاكم بأمر الله مما اضطره أن ينزل عند إرادة المصريين ويصدر مرسوماً آخر عام 398 هـ (1007م) يلغي فيه المرسوم السابق ويطلب على العكس من الناس أن يترحموا على الصحابة، وأهم من ذلك كله أن هذا المرسوم الجديد جاء مطبوعاً بالطابع المصري إذ نص على أن لكل مسلم أن يجتهد في الدين كما يشاء، وأنه ليس من حق أي مسلم أن يتعالى على مسلم آخر بسبب اختلاف المذهب أو أن يعترض مسلم على ما يعتقده مسلم آخر.
هكذا، فرض المصريون موقفهم الخاص من الدين باعتباره مسألة شخصية تتعلق بضمير الإنسان الفرد، وأنه لا يجب استخدام الدين لأغراض سياسية أو في خصومات مذهبية.
ثم، يستعرض الكاتب، حتى حكم محمد علي و إلى نهاية حكم إسماعيل (1805 ـ 1879)، حوالي خمس عشرة ثورة، أو تمرداً، قام بها الفلاحون، بسبب نظام الاحتكار الذي انتهجه محمد علي في الصناعة والزراعة والتجارة، حتى أنه في عام 1821، أصدر أمراً ينص على “منع كافة الأهالي من تشغيل أنوال الغزل والدوبارة”، ويهدد بمعاقبة الذين “يتجاسرون” على تشغيل تلك الأنوال ومعاقبة المأمورين الذين يتكاسلون عن منعهم، ومنع الفلاحين من صناعة الحصر لحسابهم الخاص، وأغلق مصانع السكر الأهلية عندما بدأت المصانع الحكومية التي أنشأها هو في إنتاج السكر، واستولى على جميع مصانع الزيوت عام 1833، وجمع كل عمال الدخان والنشوق من جميع أنحاء مصر وأجبرهم على العمل لحسابه في خان واحد تحت إشراف وال من ولاته، وأصدر عقوبات وغرامات على أي شخص يصنع أو يبيع دخاناً أو نشوقاً خارج هذا الخان حتى لو كان لاستهلاكه الشخصي.
ويكاد عهد محمد علي كله يكون عهد قلاقل وتمردات وانتفاضات فلاحية مسلحة في كل أنحاء مصر، ففي عام 1820 ـ1821 قاد رجل اسمه الشيخ أحمد ويسمى نفسه (الصلاح) ثورة فلاحية في محافظة قنا وجمع حوله 40 ألف مقاتل واستولى على تلك المنطقة، وكان يعين الحكام على المدن والأقاليم من أتباعه، وفرض الضرائب “لحكومته” واستمرت ثورته شهرين إلى أن تمكنت قوات محمد علي من سحق الثورة. وبعد ذلك بعام واحد قامت ثورة أخرى كان مركزها قرية البعيرات قرب الأقصر بقيادة رجل يسمى أيضاً الشيخ أحمد، وأطلق عليه الفلاحون اسم “المهدي”، وقد نجح في تعبئة آلاف الفلاحين حوله، وفي السيطرة على المنطقة وطرد موظفي الحكومة منها واستولى على مخازنها وأقام نوعاً من النظام المستقل وأعلن أن هدفه هو إسقاط نظام محمد علي، واضطر محمد علي إلى سحب بعض قواته من السودان وأطبق بقواته على الثوار من الشمال والجنوب فسحق ثورتهم وأحرق قرية البعيرات وعدداً آخر من القرى، وذبح مئات الفلاحين، وكان رد الفعل مزيداً من التمرد في مواقع أخرى، وعاد الفلاحون الهاربون ومن تبقى من الثوار إلى التجمع حول “المهدي” الذي قادهم حتى تمكن من تهديد مدينة قنا، وعاد محمد علي فكثف قواته في هجوم مضاد ضد الثوار وألحق بهم هزيمة أخرى، غير أن أعمال المقاومة العنيفة استمرت فلجأ أحمد باشا طاهر محافظ الصعيد إلى إصدار الأوامر بذبح مئات الفلاحين وتعليق مئات أخرى منهم أمام فوهات المدافع ثم إطلاقها، وإلى إحراق العديد من القرى، وعقب ذلك قامت ثورة أخرى امتدت من إسنا إلى أسوان تحت قيادة أحمد بن إدريس عام 1824.
وفي الوجه البحري قامت انتفاضة مسلحة خطيرة في المنوفية عام 1824، واضطر محمد علي أن يذهب بنفسه على رأس قواته لقمعها، وقاد مشايخ الشرقية عصياناً مسلحاً بعد ذلك بقليل احتجاجاً على الضرائب غير المحتملة.
وهكذا يرصد المؤلف أن تاريخ مصر الحديث (1879 حتى 1952) هو حلقات متتابعة لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بدءاً بالثورة العرابية، ومروراً بالنضال الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم ثورة 1919، وانتفاضة 1935، وانتفاضات 1946 و1950، ثم ثورة يوليو 1952.