هانحن نفقد جلال معوض.. فأى ألم ووجع في القلب!
وقد لمع وأعطى أروع العطاء، في مصر ثورة الخمسينيات وذروة الستينيات.
وهذه الستينيات، في مصر وأمتها بل في العالم، ليست عقدا عاديا من الزمان، بل هى بالفعل عصر كامل، وبكل مافي الكلمة من أبعاد ومعان.
وعن حق يقول محمد حسنين هيكل:
“القرن العشرون أهم عصور التاريخ الإنساني، والستينيات منه أخطر الحقب فيه”.
(كتاب “الانفجار ١٩٦٧”- مركز الأهرام للترجمة والنشر ١٩٩٠ – ص ٢٧).
وفي مصر: كانت عصرا حافلا، تأججت فيه، وازدهرت خلاله، كل الأشياء، وحتى بعد “كبوة” ٥ يونيو ٦٧ التي داهمت وصدمت، بقى الألق واستمر سحر العصر!.
وكيف لا، و”الفرسان” الذين مروا “بالكبوة” الصعبة واللحظة العصيبة ينهضون مجددا من عثرتهم، استمسكوا في اصرار عجيب برفع نفس رايات الثورة خفاقة متحدية، مصممين على الانتصار واستعادة كل الحقوق مهما كانت التضحية.
تألق جلال معوض في ميدان الأداء الإعلامي الإذاعي بل لقد أصبح أهم وأعمق أصوات ونبرات الثورة في الإذاعة المسم
* *
لقد صاحب صوت وقلب وعقل جلال معوض مراحل الثورة وملحمتها كلها، في جميع خطواتها من أول يوم إلى آخر يوم بصوته (الخاص جدا)، الذي لامثيل له بجديته وعذوبته الشديدة معا، بحضوره وجاذبيته في آن، بالإحساس بالأهمية الذي ينبع منه دائما تجاه مايعرض له من موضوعات، وعن حق فهو عصر كل مافيه مهم، كل مافيه سوف يأتي منه أوبعده جديد وخصب!.
وقد صاحب “معوض” العصر في الثورة والسياسة، بقدر ماصاحبه في الفن والثقافة، في أداء ممتاز للبيانات والقرارات الثورية التي تقلب الدنيا رأسا على عقب، وفي دور متميز مع الفن والغناء في احتفاليات (أضواء المدينة) وحفلات أم كلثوم… ولم يكن أى شئ مهما بعد، لينفصل في ذلك العهد والمد، بل كانت كل الأنوار والأدوار تتكامل.
أيضا
حينما صعد القائد التاريخي، بطل ملحمة الثورة الناصرية، إلى رحاب ربه.. وغابت الثورة تماما في سلطة الدولة، لتنفذ وتبقى عميقا في الوجدان الشعبي المصري والعربي ككل وتنتقل من السلطة إلى الشارع: اتجه النظام الظلامي الفاشي الجديد، لينتقم من كل رجال ورموز العصر الثوري المضيئة، وكان في الصدارة بطبيعة الحال:”جلال”.
فجأة اختفى، (حاولوا أن يخفوا اسمه ودوره وإضاءاته، كأنما لم يكن يوما “جلال معوض ما!..”. ولاظهر وسطع، ولاحينا سمعناه.!!).
وحين يعود صوت جلال متأخرا جدا، في عهد تال، فإنه بالطبع يعود حزينا، متعبا.
ولكن بنفس الجمال.. و”الجلال”.. و”الجلجلة” !.
ويقدم في أشرطة، يوم أن سنحت الظروف، ولوقليلا، بعض خطب عبد الناصر، بطله وقائد الأمة خالد الذكر، وفي أخرى بعض أغاني العصر الستيني الثورية العبقرية لعبد الحليم حافظ.. وكمال الطويل.. وصلاح جاهين.
وثلاثتهم- بدورهم- فرسان ثلاثة أفذاذ، من نفس الجيل (الذي على موعد مع القدر بتعبير جمال)، ونفس قصة وملحمة هذه الكوكبة والرعيل، في صدارة وبين عناوين “زمن المد الثوري الكبير”، ثم واجه وعانى ماتلاه من نكوص وترد وزمان ظلامي مرير ممتد.
* *
لكنهم ظلوا جميعهم على مبادئهم ومثلهم العليا وقيمهم الوطنية والأخلاقية.
ومن نماذج ذلك وأمثلته مواقف “كمال الطويل” عبقري الموسيقى – المجدد الأعظم في اعتقادي وتقديري في تاريخنا الموسيقي الغنائي منذ سيد درويش إلى الآن- الذي أكد في أول رمضان في برنامج بالمحطة الرئيسية بالراديو المصري( عام ١٩٩٧) مصارحا بصوته المميز العذب والحاسم مقدمه الإذاعي والشاعر المعروف عمر بطيشة، بالحرف: (إنني في كل حال ناصري.. أنا أنتمي إلى جمال عبد الناصر..).
كما ان من المعلومات غير المشهورة، وإن كانت مؤكدة، أن أغنية “عاش اللي قال”.. التي كانت بين الأغاني المصرية خلال معركة العبور المجيدة في رمضان- أكتوبر ١٩٧٣، ونحسب أن غالبيتها كانت آخر مجموعة أودفعة أغان وطنية مصرية جميلة صادقة باقية حتى الآن، هذه الأغنية كتبها مؤلفها محمد حمزة في البداية هكذا: “عاش .. السادات” وحينما عرضت على كمال الطويل لتلحينها رفض ان يلحن “هذا الاسم”، فعدلوا في الكلمات لتصبح “عاش.. اللي قال”، لكنه رفض أيضا واعتذر عن تلحينها، فعرضوها على الموسيقار بليغ حمدي فلحنها، لكن وفق التعديل الجديد ، بغير ذكر لاسم رئيس الجمهورية الثانية المضادة لجمهورية الثورة، وعلى الرغم من ان مواقف ذلك الحاكم وسياسات حكمه الرجعية والمتجهة للعودة إلى طبقية ورأسمالية ماقبل يوليو ١٩٥٢، وللتبعية للمشروع الصهيوأمريكي، لم تكن قد اتضحت في الفترة (١٩٧١- ١٩٧٣)، بنفس القدر الذي اتضحت به في الفترة التالية حتى نهاية حكمه (١٩٧٤- ١٩٨١)، في الأولى كانت أقرب إلى التلميح والإرهاصات والمقدمات والتمهيد، وفي الثانية بلغت المدى والذروة في التصريح والفجاجة والفجور.