د. أحمد يوسف أحمد
أخيرًا وبعد أكثر من سنة نجحت جهود التوصل لوقف إطلاق النار فى غزة، فقد تم التوصل للهدنة الأولى فى 24 نوفمبر2023، أى بعد 49 يومًا من بدء عملية «طوفان الأقصي» ولم تدم إلا لأسبوع، بينما استغرق التوصل للهدنة الثانية قرابة سنة وشهرين، وهو دليل أكيد على تعقد الصراع الإسرائيلي-الفلسطينى عمومًا، وهذه الجولة غير المسبوقة من جولاته خصوصًا، ويثير التوصل للاتفاق الأخير لوقف إطلاق النار قضايا عديدة لعل أبرزها ما يتعلق بحسابات المكسب والخسارة، وهى حسابات بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل النضال التحررى الفلسطيني، فالنجاح فى هذه الجولة من المقاومة المسلحة يعطى شهادة صلاحية للكفاح المسلح كأسلوب لمقاومة الاستعمار، بينما يدفع الفشل للمراجعة، وبعد حسابات المكسب والخسارة تأتى قضايا أخرى مهمة تتعلق بتفسير ما جرى ومستقبله ومستقبل الصراع بل والمنطقة بصفة عامة، وكلها قضايا بالغة التعقيد بالنظر لتعقد الإطار الذى تتفاعل فيه سواء فلسطينيًا وإسرائيليًا أو عربيًا وإقليميًا وعالميًا، فإذا بدأنا البحث فى حسابات المكسب والخسارة لا يمكن تفادى بعض الانطباعات الذاتية قبل محاولة التحليل الموضوعي، وأول الانطباعات دون شك هو الفرحة الغامرة التى سرت بين الفلسطينيين وكل مؤيدى حقوقهم لمجرد توقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية عن العمل رغم الخسارة الإنسانية والمادية الفادحة، أما الانطباع الثانى فهو مفاجأة المشهد فى غزة لحظة وقف إطلاق النار، فقد كان المتوقع والمنطقى بعد كل ما جرى من قتل وتدمير أن تظهر «حماس» فى صورة تتناسب مع ما وُجه لها من ضربات، وتكفى الإشارة إلى ما ذهبت إليه صحيفة «الفاينانشيال تايمز» بعد شهرين فقط من الحرب من أن الدمار الذى أصاب غزة ربما يفوق حجم الدمار الذى شهدته مدن أوروبية كبرى فى الحرب العالمية الثانية، وإلى ما حرص القادة العسكريون الإسرائيليون طيلة المواجهة على تعداد الآلاف المؤلفة التى قتلوها فى غزة من رجال المقاومة، وحديث عن الكتائب القليلة المتبقية من قوات المقاومة التى ستتم تصفيتها فى وقت وجيز، فإذا بالمقاومة تظهر فى ميادين غزة وشوارعها بمعداتها وأسلحتها بمجرد وقف إطلاق النار فى أعلى درجات الاستعداد والسيطرة، وإذا بأول مشهد لتسليم الأسيرات الثلاث لا يقل دلالة عن مشاهد نوفمبر 2023 .
ومع أن الانطباعات السابقة لها دلالتها الأكيدة فى تقييم ما جرى إلا أنه لابد من اقتحام المهمة الصعبة لتحديد حسابات المكسب والخسارة بأقصى درجة ممكنة من الموضوعية، وأبدأ بالتذكير بالصعوبات التى تعترض التقييم الموضوعى لنتائج الحروب والمواجهات المسلحة بصفة عامة، وأولى هذه الصعوبات يرتبط بالعلاقة بين ما هو عسكرى وسياسى فى التقييم، بمعنى هل تعنى الهزيمة العسكرية بالضرورة هزيمة سياسية؟ وعلى سبيل المثال فقد أدى العدوان الثلاثى على مصر في 1956 إلى احتلال إسرائيل سيناء نتيجة سحب الجيش المصرى منها لمواجهة القوات البريطانية والفرنسية فى منطقة القناة، كما تمكنت تلك القوات من احتلال مدينة بور سعيد، لكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها السياسية المتمثلة فى إسقاط السياسة المصرية التحررية، بل إن هذه السياسة اكتسبت نتيجة التصدى للعدوان زخمًا عربيًا وإفريقيًا، بل ولدى كل الشعوب المناضلة من أجل حريتها، ناهيك باضطرار القوات المعتدية للانسحاب من بور سعيد بعد أقل من شهرين على احتلالها، ومن سيناء بعد 4 أشهر، كما أن هناك الصعوبة المتعلقة بالمدى القصير والمدى الطويل، وهى صعوبة تتعلق باستدامة الانتصارات العسكرية، وعلى سبيل المثال فإن الاعتراف بالهزيمة العسكرية الفادحة فى عدوان 1967 لا مفر منه، لكن الوضع الذى أفرزته هذه الهزيمة تعرض لتحديات حقيقية من القوات المسلحة المصرية بعد أقل من شهر على وقوعها، كما ظهر فى معركة رأس العش فى مطلع يوليو 1967، وتغير جذريًا بحرب أكتوبر 1973.
فإذا انتقلنا إلى محاولة تحديد الرابحين والخاسرين فى جولة الصراع الأخيرة يجب التذكير أولًا بأنهم لا يقتصرون على طرفى الجولة المباشرين وهما المقاومة فى غزة وإسرائيل، وإنما ينبغى أن يمتد التقييم إلى أنصارهم وخصومهم، ومع ذلك فإنه من المنطقى البدء بالطرفين المباشرين، وهناك أساس لتقديم فرضية فى هذا الصدد مفادها أن إسرائيل لم تنتصر وحماس لم تنهزم، والسبب فى هذه الصياغة أنه يصعب القول رغم كل القتل والتدمير أن إسرائيل قد انتصرت فى هذه المواجهة التى دامت سنة وربع السنة لسبب بسيط، وهو أن هدفيها الرئيسيين المعلنين للحرب لم يتحققا من قريب أو بعيد، وهما تحرير الأسرى والرهائن بالقوة، واجتثاث المقاومة فى غزة وعلى رأسها «حماس»، فلم تتمكن إسرائيل حتى توقيع الاتفاق سوى من تحرير 4 رهائن بعملية عسكرية فى يونيو الماضى قُتِل فيها قرابة 300 فلسطيني، وفيما عدا هذا فإن التحرير لم يتم سوى عبر المفاوضات، أما الهدف الثانى فالفشل فيه أكثر وضوحًا، ويكفى أن الاتفاق تم توقيعه مع «حماس» التى ظهرت فى المشهد الافتتاحى لتسليم أول ثلاث أسيرات بأقصى قوة واستعداد وسط جماهيرها الحاشدة المبتهجة، ولنتذكر الغرور الإسرائيلى والأمريكى الذى كان يتفضل عندما تم إدراك صعوبة المواجهة مع المقاومة بأن يطرح على قادتها الخروج بسلام من غزة مقابل وقف إطلاق النار، ولنقارن ذلك المشهد الذليل الذى تخيله قادة إسرائيل المغرورون وفيه يخرج قادة المقاومة مُنَكِسى الرءوس فى حماية جنود الاحتلال إلى خارج وطنهم فى رحلة شتات جديدة بذلك المشهد الجليل الذى تشكل كمحصلة لعطاء خارق قدمه رجال المقاومة طيلة سنة وربع السنة، وبلغ ذروته بملحمة استشهاد قائد المقاومة وهو يقاتل مغتصبى أرضه، لكن لهذا المشهد المجيد تكلفته التى يستند إليها خصوم المقاومة فى دحض نهجها، وهى موضوع المقالة القادمة بإذن الله.
نقلا عن الأهرام