د. أحمد يوسف أحمد
فى المقالة الماضية بدأت الحديث عن حسابات المكسب والخسارة بمشاهد الفرحة الغامرة التى سرت بين الفلسطينيين وكل مؤيديهم، وأنهيتها بالانتقال إلى حسابات التكلفة، بمعنى تكلفة الهزيمة أو النصر، وهى حسابات بالغة الأهمية لعمليات المراجعة الواجبة لأساليب تحقيق الأهداف، وكما بدأت المقالة الماضية بمشاهد الفرحة لا يمكننى أن أُغفل هنا المشهد المهيب لعودة النازحين من جنوب غزة لشمالها، وهو مشهد شديد الرمزية ينبئ بأن هدف العودة متجذر وممكن التحقيق، ويُؤكد تمسك الفلسطينيين المطلق بأرضهم، فهم يعودون إلى أرض مدمرة على نحو شبه كامل، لكن إصرارهم يعنى أنهم قبلوا التحدى، وأنهم سيعيدون البناء بإذن الله، وقد جاء هذا المشهد فى توقيته الأمثل ليكون أبلغ رد على الأفكار غير المسئولة عن تهجيرهم إلى مصر والأردن بدعاوى سخيفة، وأنتقل بعد ذلك للتعليق على ملاحظة أبداها صديق على عبارة «أن إسرائيل لم تنتصر وحماس لم تنهزم»، حيث وصفها بأنها «مراوغة»، والحقيقة أننى أعتبرها عبارة «واقعية»، فإسرائيل رغم كل دعاوى خصوم المقاومة لا يمكنها الادعاء بأنها انتصرت لسبب بسيط، وهو أنها لم تحقق أهدافها المعلنة للحرب، ولا نستطيع فى الوقت نفسه القول إنها انهزمت، لأن قادتها المتطرفين مازالوا يتربصون شرًا بالشعب الفلسطينى ومقاومته، ويملكون القدرة على ذلك لو سمحت لهم الظروف، والقيد الحقيقى الوحيد عليهم حتى الآن هو صمود المقاومة التى أظهرت تطورات المواجهة أنها فى قمة تماسكها التنظيمى، أما قدراتها العسكرية فإن ما حدث فى الـ15 شهرًا الماضية لا يشجع على قبول التقديرات المبسطة التى تذهب إلى أن القوة العسكرية للمقاومة قد قُوضت، بل لقد صمدت ولم تنهزم، ووصل أداؤها فى الأيام الأخيرة التى سبقت التوصل للاتفاق إلى الذروة، لدرجة أن بعض التقديرات ذهب إلى أن ما يُسَمَّى ضغط مبعوث ترامب فى المفاوضات على نيتانياهو لم يكن إلا عملًا من أعمال حفظ ماء الوجه له، ومن ناحية أخرى فإن المقاومة وإن لم تنهزم لا تستطيع القول إنها حققت أهدافها الاستراتيجية، ومن هنا جاءت العبارة التى رآها البعض مراوغة أو غامضة.
فإذا بدأنا حسابات التكلفة التى لا تقل تعقيدًا عن حسابات المكسب والخسارة، بل إنها جزء لا يتجزأ منها يثور على الفور التساؤل عن الثمن الذى تكبدته المقاومة لكى لا تنهزم، وتفاوض باقتدار رغم ضراوة عدوها حتى تصل إلى الاتفاق الأخير الذى اعتبرته دوائر إسرائيلية عديدة، وبالذات داخل معسكر التطرف، مُذِلًا لإسرائيل، وثمة اتجاه فى الساحة العربية يرى أن أى حديث عن إنجاز للمقاومة بتكلفة تصل إلى تدمير شبه كلى لغزة ومقتل قرابة 50 ألفا وإصابة ما يربو على 100 ألف من أهلها هو نوع من الهراء والعبث، ومن ثم تُوجه الاتهامات للمقاومة بأنها المسئولة عن كل القتل والدمار الذى حدث، لأنها أعطت الذريعة لإسرائيل لارتكاب جرائمها، ولا شك فى أن تكلفة الإنجاز الذى حققته المقاومة باهظة لأبعد الحدود، لكن الاكتفاء بتقرير هذه الحقيقة مفارق للموضوعية، وذلك لعدة اعتبارات أولها أن ما حدث فى غزة ليس سوى تطبيق عرفته كل الحالات الاستعمارية التى تولد مقاومة وطنية تتكبد عادة تكلفة هائلة لكنها مبررة، لأن البديل هو القبول بالظلم والقهر والاستغلال الذى وصل فى الحالة الفلسطينية إلى الاقتلاع من الأرض، وثانى هذه الاعتبارات أن النضال الفلسطينى قد جرب الأساليب الدبلوماسية، وفشل فشلًا ذريعًا فيها، بدليل أن اتفاقية أوسلو تجاوزت ثلث القرن عمرًا ومازلنا فى المربع رقم واحد، ولذلك فإن اللجوء للنضال المسلح له ما يبرره، والاعتبار الثالث أن الحركة الصهيونية منذ قويت شوكتها فى فلسطين وإسرائيل منذ نشأتها لم تكن بحاجة لذريعة من أحد لقتل الفلسطينيين وتدمير مقومات حياتهم، وهو بالمناسبة سلوك استعمارى عادى، كما يشهد على ذلك ملايين الضحايا فى المستعمرات الذين قتلتهم السلطات الاستعمارية بالمقاومة أو بدونها، والاعتبار الرابع والأخير أن هذه التكلفة لم تكن دون مقابل على الطرف الإسرائيلى، وهذا ينقلنا إلى الجانب الإسرائيلى من المعادلة.
لا شك فى أن خسائر إسرائيل كذلك كانت فادحة، لكن ثمة صعوبات هائلة فى التوصل لتقدير دقيق لها، منها أولًا أن هناك إجماعًا على أن الجيش الإسرائيلى يقلل من حجم خسائره فى الأفراد والمعدات، كذلك فإن بعض الخسائر المهمة كتلك المتعلقة بالآثار النفسية للحرب، وأثرها على التماسك المجتمعى، بل على التفاؤل بشأن مستقبل إسرائيل ذاته صعبة القياس علميًا فى الوقت الراهن، وأكثر صعوبة على المديين المتوسط والطويل، ومع ذلك فقد اعترف الجيش بوقوع نحو ألف قتيل وقرابة 6 آلاف مصاب، علاوة على الخسائر فى المعدات بسبب طول مدة العمليات وصمود المقاومة، وقد ترددت تقارير فى النصف الثانى من الحرب عن نقص فى المدرعات وصواريخ الدفاع الجوى، كما قُدرت الخسائر الاقتصادية بنحو 67 مليار دولار، وعمومًا فاعتقادى أن هذا يمثل الجانب الأقل أهمية من الخسائر طالما أن الولايات المتحدة تمثل الدرع الواقية لإسرائيل من أى ضائقة عسكرية أو اقتصادية، ولذلك فإن الخسائر المعنوية قد تكون أكثر أهمية كالإحساس بالعجز أمام قوة صغيرة لا تقارن بالجيوش التى واجهتها إسرائيل فى حروبها الكبرى، والانقسام السياسى والعسكرى والمجتمعى حول إدارة الحرب وحل الصراع، ولا يقل أهمية بحال الخسارة الإسرائيلية لقطاعات مهمة من الرأى العام العالمى، بما فى ذلك داخل الولايات المتحدة ذاتها، وسوف تكون لهذا كله آثار أبعد مدى، وإجمالًا لا شك فى أن الخسائر الإسرائيلية مثلت الدافع الرئيسى للموافقة على الاتفاق الأخير، والخلاصة وفقًا للآية الكريمة «ولا تهنوا فى ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون».
نقلا عن الأهرام