مقال الدكتور محمد السعيد إدريس .. إيران والأمن الإقليمي

الذين تابعوا تصريحات كبار القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين طيلة الأيام الماضية خاصة ابتداء من الضربة الجوية الإسرائيلية ضد إيران (السبت 26 أكتوبر الفائت) كان فى مقدورهم التسرع فى الخروج باستنتاج مفاده أن إسرائيل باتت واثقة من أنها قد حسمت، ربما لأجل غير مسمى، هيكلية نظام الأمن الإقليمى بالشرق الأوسط لصالحها، وأن النظام الإقليمى للشرق الأوسط سوف يخضع قسرياً لنظام أحادى القطبية تسيطر وتهيمن عليه إسرائيل دون منازعة إيرانية، وأن القدرة الإيرانية على المنافسة على زعامة النظام الإقليمى سوف تتوارى لأجل غير منظور، فى حين باتت تركيا، والعرب قبلها، خارج إطار أى منافسة على إدارة القرار الإقليمى.

ففى حديثه بنهاية دورة تدريبية لكبار الضباط فى قاعدة «رامون» الجوية (الخميس 31 أكتوبر الفائت) تفاخر نيتانياهو بأن الغارات الجوية الإسرائيلية استهدفت «الخاصرة الرخوة لإيران، وتركتها من دون مظلة دفاع جوى»، وقال «إن إسرائيل باتت تتمتع بحرية عمل أكبر فى إيران اليوم»، وزاد: «يمكننا الوصول إلى أى مكان فى إيران حسب الحاجة». الأكثر من ذلك أن نيتانياهو كان قد أعلن فى جلسة مغلقة لحزب «الليكود» أمام أعضاء الكنيست والوزراء قبل يومين من هذا الحديث (الاثنين 28 أكتوبر الفائت) أن الهجوم الذى نفذته القوات الجوية الإسرائيلية على إيران «لم ينته بعد، وسيكون له استمرار»، موضحاً أن «من يعتقد أن ضربة واحدة كافية لإنهاء الأمر فهو مخطئ».

رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الجنرال هرتسى هاليفى أكد نفس المعانى، وحذر إيران من التفكير فى الرد على الضربة الإسرائيلية موضحاً «نحن نعرف كيف نصل إلى إيران، وسنصل بقدرات لم نستخدمها من قبل، وسنضرب بقوة شديدة كلاً من الإمكانات والأماكن التى تركناها من قبل». هذا يعنى أمرين؛ أولهما، أن الاستعلاء الإسرائيلى بلغ مداه، وأن إسرائيل باتت على ثقة فى أنها قادرة على «شل وإخراس إيران» من التفكير فى أى رد على العدوان الإسرائيلى الأخير. ثانيهما، أن ثقة إسرائيل فى امتلاك التفوق المطلق فى «القوة» العسكرية والاستراتيجية على المستوى الإقليمى يعطى لإسرائيل الحق فى فرض نفسها «قوة إقليمية متفردة ومسيطرة». عندما يقول الإسرائيليون ذلك ويروجون له فإنهم يتجاهلون عمداً أى إشارة لسؤال محورى وهو: من أين جاءت كل هذه القوة وكل هذه الثقة الإسرائيلية؟ ويحاولون الترويج إلى أن كل ما يقولونه ويروجون له هو محصلة لـ«قوة إسرائيلية خالصة» دون أى أشارة إلى أن إسرائيل «مجرد صدى صوت» للقوة الأمريكية، وأن كل ما تتباهى به إسرائيل الآن هو لكونها باتت جزءاً أصيلاً من معادلة الأمن الأمريكية فى الشرق الأوسط، وأن كل القواعد والقدرات العسكرية الجوية والبحرية والبرية والفضائية الأمريكية فى الشرق الأوسط باتت مسخرة لخدمة إسرائيل منذ أن انضمت إسرائيل، بقرار أمريكى فى يناير 2021 إلى «القيادة الوسطى الأمريكية» بدلاً من بقائها ضمن «القيادة الأوروبية – الأمريكية». ببساطة شديدة، أضحى الجيش الإسرائيلى، منذ صدور ذلك القرار من وزارة الدفاع الأمريكية، «جزءاً لا يتجزأ من شراكة عسكرية ضخمة»، وبتحديد أكثر أصبح «جزءاً من الجيش الأمريكى» وأن من يقوده فى الحقيقة الجنرال كوريللا قائد «القيادة الوسطى الأمريكية».

إيران وعت هذه الحقيقة جيدا، إلى جانب حقيقة أخرى تتعلق بضرورة مراجعة فتوى مرشدها الأعلى الخاصة بتجريم امتلاك السلاح النووي. وعت إيران أن كون إسرائيل قد أصبحت جزءاً أصيلاً من «القيادة الوسطى الأمريكية» بالشرق الأوسط ، أن الأمن الإقليمى الشرق أوسطى صار «أمناً معولماً» تسيطر عليه القوة العالمية الكبرى الأمريكية، ومن ثم فإن الطريق أضحى مسدوداً أمام أى طموح إيرانى للمنافسة على الزعامة الإقليمية، وأن الخيار الأوحد لتمكين إيران من هذه المنافسة هو التحالف مع قوة عالمية أخرى يكون فى مقدورها تحقيق «توازن التنافس» و«توازن الردع» مع القوة الأمريكية، ولن يحدث ذلك إلا بمراجعة أحد أهم مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية الذى يحرّم الدخول فى أى نوع من التحالفات مع القوى الدولية الكبرى لتأمين استقلالية القرار الوطنى.

إيران حققت تقدماً مهماً فى هذا الاتجاه بالإعلان، على لسان وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف عن اكتمال بنية «اتفاق الشراكة الشاملة» بين روسيا وإيران، وأنها باتت معدة للتوقيع من الرئيسين الإيرانى والروسى خلال أسابيع، وأنها تتضمن «التعاون الوثيق فى المجال الدفاعى والعسكرى».

أما الحقيقة الأخرى التى تتعلق بإدراك إيران أن الضغوط والتحديات الهائلة التى تتعرض لها كل من أمريكا وإسرائيل باتت تفرض «حتمية امتلاك السلاح النووى».

كمال خرازى مستشار المرشد الأعلى السيد على خامنئى أعاد ما سبق أن تحدث عنه منذ شهور بأنه «من الممكن تغيير عقيدة إيران النووية إذا واجهت الأمة تهديداً وجودياً»، وقال: «لدينا القدرات الفنية اللازمة لإنتاج أسلحة نووية». وكانت صحيفة “طهران تايمز” الناطقة بالإنجليزية والقريبة من المرشد قد كتبت أن «الخطر الإسرائيلى غير المنضبط يغذى المطالبات الشعبية الإيرانية بامتلاك الأسلحة النووية».

إيران تتجه إذن إلى فرض مراجعة جذرية لمعادلة الأمن الإقليمى بالشرق الأوسط بفرض روسيا قوة عالمية موازنة للقوة الأمريكية وامتلاك السلاح النووى لفرض «توازن الردع» مع إسرائيل، وعندها تعيد تـأكيد نفسها قوة إقليمية منافسة، وما تجهز له إيران من ضربة قوية لإسرائيل بعد أيام ستكون إعلاناً للمعادلة الجديدة للأمن الإقليمى فى ظل تأكيدات للمرشد الإيرانى للتحضر لهجوم انتقامى ضد إسرائيل وتوعد رئيس الحرس الثورى إسرائيل برد «لا يمكن تصوره» على الضربات الإسرائيلية التى استهدفت المواقع العسكرية الإيرانية.

نقلا عن بوابة الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *