ملاحظات واجبة على التطورات السورية «2»

د. أحمد يوسف أحمد

تناولت ملاحظات المقالة الماضية ما يتعلق بتداعيات سقوط نظام الأسد على سوريا، وتركز هذه المقالة على ملاحظتين تتعلقان بالتداعيات على النظام العربى والصراع العربى – الإسرائيلى، وبخصوص الملاحظة الأولى يمكن القول إن ما حدث فى سوريا فى الأيام القليلة التى سبقت سقوط نظامها الحاكم يذكرنا بسقوط الموصل فى أيدى داعش فى يونيو 2014، وسقوط صنعاء فى أيدى الحوثيين فى سبتمبر 2014، مع الوعى بوجود فروق فى التفاصيل بطبيعة الحال، لكن عوامل التشابه قائمة بكل تأكيد، وأولها أن تنظيمًا ذا خلفية شديدة التطرف قد استولى على السلطة، والثانى أن عملية الاستيلاء تمت بدون تصدى الجيش النظامى لها فى الحالات الثلاث لأسباب مختلفة، لكن الأسوأ أن عامل الاختلاف الأساسى بين ما جرى فى دمشق والحالتين السابقتين عليها أن انزعاجًا دوليًا وإقليميًا قد حدث عقب السقوط، ومن ثم كان هناك فعل خارجى مؤثر فى صد هذه الكارثة تمثل فى التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة الذى أسقط دولة داعش فى 2017، والتحالف العربى الذى نجح فى وقف تمدد سيطرة الحوثيين على كل اليمن، وإن لم ينجح فى إزاحتهم من مناطق سيطرتهم فى الشمال، أما الآن فإن الملاحظة شديدة الوضوح أن هناك قبولًا دوليًا ضمنيًا على الأقل للوضع الجديد فى دمشق، بما فى ذلك الإدارة الأمريكية التى صنفت تنظيم حكام دمشق الجدد فى خانة الإرهاب، ورصدت 10 ملايين دولار مكافأة لمن يرشد عن زعيمه، أما الآن فهى تتواصل معه وتنتظر أفعاله، وتدرس إزالة اسم التنظيم من لائحة الإرهاب، أما الدول العربية فصحيح أنها تبنت موقفًا سليمًا من مستقبل سوريا فى اجتماع العقبة الأخير، لكن هذا الموقف يأتى كشروط للتعامل مع حكام سوريا الجدد وليس كرفض لهم، ناهيك بغياب القدرة على التأثير فى مجريات الأحداث.

ويفضى ما سبق إلى أن التهديدات الحالية ليست مقصورة على سوريا، وإنما هى قابلة للانتشار خارجها، ولا ننسى أنه عقب إعلان دولة داعش على جزء من العراق فسوريا تكررت محاولات محاكاة ما جرى فيهما فى بلدان عربية أخرى كان أهمها ليبيا ولبنان، وصحيح أن هذه المحاولات قد صُفيت فى النهاية كلها إلا أن الدرس المهم هو ضرورة التحسب واليقظة لما يُخَطَّط له للأيام المقبلة فى بلداننا العربية، ولا شك فى أن جزءًا من فداحة ما جرى ويجرى فى سوريا يرجع للغفلة عن المخططات التى تُحاك للوطن العربى، وأن البلدان العربية كافة أصبحت فى مرمى الخطر، وإن كانت درجة هذا الخطر تتوقف على مدى هشاشتها وقربها من مراكز التآمر، وقلوبنا وعقولنا كلها مع شعبى الأردن والعراق اللذين يبدو أن لهما مكانًا خاصًا فى التآمر الجارى الذى تقوم فيه إسرائيل بدور مهم، فأى اضطرابات فى الأردن لا قدر الله تخدم أحلامها المُجْهَضَة بإذن الله بأن يكون الوطن البديل للفلسطينيين، وأى قلاقل فى العراق حماه الله سوف توظف فى خدمة مشروع نيتانياهو لشرق أوسط جديد تختفى معه كل الأدوار العربية المهمة، وكذلك يختفى أى تهديد إيرانى محتمل لإسرائيل، وإن مصر التى أجهض شعبها وجيشها فى يونيو 2013 مخطط هيمنة التنظيمات المتأسلمة على الوطن العربى لقادرة بوحدة شعبها وقوة جيشها وبراعة دبلوماسيتها ويقظة قيادتها على درء هذا الخطر الداهم.

أما الملاحظة الثانية الخاصة بتداعيات سقوط نظام الأسد على الصراع العربى – الإسرائيلى فلا تقل أهمية وخطورة عما سبق، فهناك أولًا أن هذا السقوط قد قطع الشريان الذى يدعم المقاومة فى لبنان التى تقوم بدور مهم فى ضبط السلوك التوسعى الإسرائيلى فى لبنان وخارجه، غير أن الأخطر بالتأكيد هو ما جرى ويجرى فى سوريا، والذى يعكس عقيدة أمنية فى منتهى الخطورة تتبناها الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهى عقيدة تؤكد العقل التوسعى الإسرائيلى والاستخفاف التام بالقانون الدولى، فبمجرد سقوط نظام الأسد أعلن نيتانياهو انتهاء اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 بحجة أن النظام السورى قد سقط، وكذلك سيطرة إسرائيل على المنطقة العازلة التى حددتها تلك الاتفاقية، بل وتجاوزها بالاستيلاء على الموقع العسكرى السورى فى جبل الشيخ، وأخيرًا وليس آخرًا قيام إسرائيل بعملية تدمير شاملة لقدرات سوريا العسكرية هى الأولى من نوعها منذ نشأتها، ولنتأمل فى التبرير الإسرائيلى لهذه الأعمال التى تمثل انتهاكًا صارخًا لقواعد القانون الدولى، فمنذ متى كان تغيير النظام الحاكم فى دولة يبرر لدولة أخرى نقض التزاماتها القانونية تجاه البلد الذى وقع فيه التغيير، وكأنه لا يوجد ما يُسَمَّى التوارث الدولى، ومنذ متى كان القانون الدولى يسمح لدولة بأن تقرأ أفكار الحكام الجدد فى دولة أخرى تعتبرها مصدرًا محتملًا لتهديد أمنها، وتقرر أن هذه الأفكار تمثل تهديدًا محتملًا، وتقوم بناءً على ذلك بعملية تدمير شاملة للقدرات العسكرية للدولة التى رأت أنها مصدر محتمل للخطر، والغريب أن توجهات حكام سوريا الجدد تجاه إسرائيل أكثر من وديعة! ويعنى هذا العمل لو تم السكوت عنه أن إسرائيل تملك حق الاعتراض على التطورات السياسية الداخلية فى بلدان الوطن العربى، وأنها باتت الخصم والحكم والمُنَفذ، فتحكم على أى تغيير داخلى تشاء فى أى بلد بأنه مهدد لأمنها، وتقوم بالتالى بتدمير شامل لقوته العسكرية كما فعلت فى الجيش السورى، والمؤسف أن يتم ذلك فى ظل صمت دولى شبه كامل، ناهيك بالدعم الأمريكى السافر للأعمال الإسرائيلية، واعتبارها عملًا مبررًا من أعمال الحفاظ على الأمن الإسرائيلى.

ومن الواضح مما سبق أن ما جرى فى سوريا وتداعياته العربية جد خطير، وأن القادم يمكن أن يكون أسوأ بكثير من منظور المصالح العربية، ولا شك فى أن الدول العربية تملك القدرة على المواجهة الحازمة لهذه التطورات، ولكن هل تملك الإرادة الموحدة لذلك؟

نقلا عن الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *