د. أحمد يوسف أحمد

تناولت الملاحظات فى المقالتين السابقتين الداخل السورى والنظام الإقليمى العربى، والصراع العربى الإسرائيلى، وتناقش هذه المقالة الملاحظات الخاصة بالتوازنات الإقليمية، ولا شىء يثبت التغير فى نماذج التفاعلات السياسية وسرعته كالتطورات التى ألمت بموازين القوى فى المنطقة مؤخرًا، ونذكر أن صمود المقاومة فى غزة والضفة ولبنان لسنة كاملة قد أوجد وضعًا بدت فيه إسرائيل ضعيفة رغم كل القتل والتدمير فى غزة والضفة ولبنان، ومعيار الضعف هنا هو عجزها عن تحقيق هدفيها الاستراتيجيين المعلنين، وهما اجتثاث المقاومة وتحرير الأسرى والرهائن، فقد استمر صمود المقاومة وجبهات إسنادها، وفشلت إسرائيل فى إنقاذ الأسرى والرهائن بالقوة، فلم تحرر منهم إلا ما سمحت به هدنة نوفمبر 2023، أما القوة فلم تؤد إلا إلى قتل مزيد منهم إما نتيجة الغارات الإسرائيلية أو نيران صديقة، ولم يُحَرَّر بالقوة إلا نفر يُعَد على أصابع اليد الواحدة وبتكلفة باهظة، ويُضاف إلى هذا ما تكبدته إسرائيل من خسائر فى الأفراد والمعدات، وهو إنجاز لافت للمقاومة التى واجهت الترسانة العسكرية الإسرائيلية بدعم غير محدود عسكريًا وماليًا من الولايات المتحدة، بما فى ذلك الدعم المباشر بالهجمات على الحوثيين، وتزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ ثاد للدفاع الجوى بأطقم تشغيلها، بعد أن أنهكت صواريخ «حزب الله» وطائراته المسيرة الدفاع الجوى الإسرائيلى، ولقد كتبت دراسة فى يوليو الماضى فى مجلة «آفاق إستراتيجية» ذهبت فيها إلى أن الصعود الأكبر للمكانة الإقليمية نتيجة هذه الحرب كان من نصيب إيران وأن التراجع الأكبر لحق بإسرائيل، لكن الموقف انقلب رأسًا على عقب فى أسابيع قليلة، وهو درس على سرعة التغير فى الأوضاع السياسية.

فقد شهد النصف الثانى من سبتمبر الماضى تفجير أجهزة الاتصالات التى يستخدمها أفراد «حزب الله»، وهو ما أوقع قتلى وجرحى بينهم بالمئات، وتلت ذلك عملية اغتيالات لقيادات الحزب كان من شأنها أن تصيبه بالشلل التام، لكنه أظهر قدرة فائقة على الصمود وتوجيه ضربات مؤلمة لإسرائيل، غير أن ضرباتها بالمقابل أفضت إلى التوصل فى 26 نوفمبر لاتفاق وقف إطلاق نار إسرائيلى لبنانى لم يأت بجديد سوى أنه وضع قرار مجلس الأمن 1701 موضع التنفيذ، وهو القرار الذى لم يُقَدَّر له أن ينفذ أبدًا من طرفيه، غير أن الاتفاق أوجد لجنة للإشراف على التنفيذ تضم بالإضافة لطرفى الصراع والأمم المتحدة كلًا من الولايات المتحدة وفرنسا، وهو ما يعنى تقييد الحزب فى أى مواجهات مقبلة، غير أن الضربة القاصمة جاءت بعد 12 يوما فحسب بنجاح جبهة تحرير الشام على رأس فصائل معارضة أخرى فى إسقاط نظام الأسد، وبهذا التطور ضربت إسرائيل 3 عصافير بحجر واحد، وقد يقول قائل ما علاقة إسرائيل بإسقاط نظام الأسد الذى تم بواسطة فصائل المعارضة، والجواب من وزير الدفاع الإسرائيلى ذاته، فقد تفاخر منتشيًا فى تهديداته للحوثيين بتدمير بنيتهم التحتية وقطع رءوسهم بما فعلته إسرائيل بقادة حماس و«حزب الله»، وأضاف نصًا «أسقطنا نظام الأسد فى سوريا»، ومن المعروف أن نيتانياهو هدد فى كلمته لإعلان وقف إطلاق النار مع لبنان بشار الأسد معتبرًا أنه يلعب بالنار بتمريره الأسلحة لحزب الله، فماذا عن العصافير الثلاثة التى ضربتها إسرائيل بإسقاط نظامه؟ أولها بطبيعة الحال قطع قناة الدعم الذى كانت تقدمه إيران لحزب الله بما يمثل قيدًا يُضاف إلى قيد اتفاق وقف إطلاق النار، ويثير تساؤلات حقيقية حول قدرة الحزب على مواصلة دوره فى مواجهة إسرائيل، والعصفور الثانى إسقاط نظام، صحيح أنه لم يقم بدور فى الصراع مع إسرائيل منذ حرب أكتوبر 1973، إلا أنه على الأقل حليف لإيران، ومن ثم فإن سقوطه تنفيذ جزئى للمخطط الإسرائيلى لتقويض النفوذ الإيرانى فى المنطقة، كذلك أعطى هذا السقوط إسرائيل ذريعة بررت بها التحلل من التزاماتها بموجب اتفاق 1974، ووفر لها فرصة التهام مزيد من الأراضى السورية، والأخطر أنه سمح لها بتدمير شامل للقوة العسكرية السورية فى عمل غير مسبوق فى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلى، بمعنى أن تقرر دولة أن تغييرًا داخليًا فى دولة ما يهدد أمنها فتدمر قوتها العسكرية بالكامل، وتكتمل صورة العصفور الثانى بالنظام الجديد الذى لم تهتز له شعرة من كل ما جرى من احتلال لأرضه وتدمير لجيشه، وكانت رسالته شديدة الوضوح: أولويتنا هى الداخل، ونحن منهكون وليست لنا نية الدخول فى صراع مع أحد، أما العصفور الثالث والأخير فيتعلق بمزيد من تحجيم الدور الإيرانى، وقد صمتت الفصائل العراقية التى شاركت فى المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وإن كان الحوثيون مازالوا مستمرين، ولا شك فى أن لعاب إسرائيل يسيل تمنيًا للإجهاز على القوة الإيرانية إما بضربة عسكرية، وهو عمل يتوقف القيام به على سيد البيت الأبيض الجديد، أو بالعمل على تقويض النظام الإيرانى من الداخل، وسيكون هذا اختبارًا حقيقيًا لقوته.

وتبقى نظرة واجبة على الصعود التركى الكبير بعد تطورات سوريا الأخيرة، فتركيا أحد صانعيها الرئيسيين، وبعدها أصبح مفتاح سوريا بيدها، ومن الواضح أنه لا مشكلة لديها فى التعامل مع إسرائيل، وإن كانت المشكلة فى إدارة التفاعلات المتعلقة بأكراد سوريا، فالولايات المتحدة تؤيدهم، والموقف التركى منهم معروف، لكنى أتصور أن حلها فى ظل الانتهازية الأمريكية ممكن، وهكذا انقلب المشهد الإقليمى الذى دام قرابة سنة، فى شهور قليلة شهدت صعودًا إسرائيليًا وتركيًا بدت معه أحلام نيتانياهو فى شرق أوسط جديد ممكنة التحقيق، بينما تراجع النفوذ الإيرانى بشدة ومعه الروسى، وهو ما ينقلنا للمقالة الأخيرة من هذه السلسلة عن تداعيات التطورات السورية على نفوذ القوى الكبرى فى الشرق الأوسط.

نقلا عن الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *