د. أحمد يوسف أحمد

تناولت المقالات الثلاث الماضية الملاحظات المتعلقة بدلالات التطورات السورية بالنسبة للداخل السورى والمستويين العربى والإقليمى، وتهتم هذه المقالة بالمستوى العالمى وتحديدًا دلالات ما جرى بالنسبة للولايات المتحدة وروسيا، حيث إنه على الرغم من وزن كل من الصين والاتحاد الأوروبى عالميًا وتأثر مصالحهما بالتطورات السورية وإدلاء مسئولين فيهما بتصريحات عن التطورات السورية، بل ولقاءات أوروبية برموز الوضع الجديد فى سوريا فإن حضورهما السياسى فى المنطقة لا يجعل لهما دورًا مؤثرًا فى مجريات الأحداث، وإذا بدأنا بالولايات المتحدة يمكن القول إجمالًا إن التطورات جاءت مواتية لمصالحها الاستراتيجية بوضوح، ولكن مع قدر يُْعْتد به من المربكات، إذا استخدمنا مصطلح الاقتصادى المرموق الدكتور محمود محيى الدين، وتبدأ الاستفادة الاستراتيجية الأمريكية بالمنظور الإسرائيلى، فكل ما يفيد إسرائيل يصب فى المصلحة الأمريكية، ويكون موضع ترحيب وتأييد أمريكيين، بغض النظر عن قانونيته، ويكفى أن النظام الجديد قد قام برفع الراية البيضاء فى القضايا المعلقة مع إسرائيل، وهى ليست قضايا ثانوية، وإنما تتعلق بسلامة سوريا ووحدة أراضيها، ولا أتحدث عن الجولان المحتل الذى وافق ترامب فى ولايته الأولى على ضمه، وإنما عن مسارعة نيتانياهو بإلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، واحتلال المنطقة العازلة والموقع العسكرى فى جبل الشيخ، والتدمير الشامل للقوة العسكرية السورية، وبالمقابل تلخص موقف حكام دمشق الجدد فى أن سوريا منهكة وليس واردًا دخولها فى صراعات جديدة مع أى طرف، وأن الداخل هو أولويتها المطلقة، وحتى لم يفكروا فى تقديم شكوى لمجلس الأمن بخصوص انتهاك اتفاقية 1974، واحتلال أراضٍ سورية جديدة، والتدمير التام للقدرات العسكرية السورية، ومن ناحية ثانية فقد انطوت التطورات السورية على سقوط نظام حليف لإيران الخصم الأول للولايات المتحدة فى المنطقة، والذى لم تتمكن هى وإسرائيل من القضاء عليه أو قص أجنحته لمدة قاربت على نصف القرن، ولا شك فى أن شهية الدولتين مفتوحة الآن على سيناريوهات القضاء التام على هذا الفاعل الدولى المزعج لمصالحهما، فماذا عن المربكات؟

يمكن الحديث عن نوعين من المربكات، أولهما أن التغيير فى سوريا قد تم على أيدى جماعات صنفتها الولايات المتحدة ذاتها بأنها إرهابية، بل لقد رصدت مكافأة قيمتها 10 ملايين دولار للقبض على قائدها، وهو ما يمثل مأزقًا بالنسبة لها، لكن البراجماتية الأمريكية يمكن أن ترتدى بسهولة ثوبًا انتهازيًا، ومن هنا كان حديث الأفعال لا الأقوال، أى أن الحكم النهائى عليها لن يكون على ضوء جرائمها السابقة التى شاركت الولايات المتحدة فى مواجهتها عسكريًا وسياسيًا، وإنما استناد إلى أفعالها القادمة، وإن كنت ألاحظ صمتًا أمريكيًا عما يحدث فى أرجاء مختلفة فى سوريا من ممارسات ثابتة صوتًا وصورة تدحض الأقوال المعسولة للقيادات السورية الجديدة عن التسامح والوئام الوطنى وهلم جرا، والواقع أن هذا ليس بجديد على السياسة الأمريكية، فقد تفاهم ترامب فى ولايته الأولى مع طالبان على تسليم أفغانستان لها من الناحية الفعلية بموجب اتفاق فبراير 2020، ومن لديه شك فى هذا فليراجع هذا الاتفاق، ثم جاء بايدن لينفذه بأسوأ طريقة ممكنة انطوت على ترك أسلحة هائلة لطالبان المصنفة إرهابيًا تمامًا مثلها مثل الجماعات المسيطرة على السلطة فى دمشق الآن، وهكذا فإن المربك الأول لا يعدو أن يكون سوى إحراج مؤقت للسياسة الأمريكية حتى تتمكن من إخراج عملية التكيف مع الوضع الجديد فى سوريا الذى يدير قائده بذكاء عملية رسم شخصية جديدة للقائمين عليه، أما المربك الثانى فينبع من الالتزام الأمريكى بتأييد أكراد سوريا الذين ساعدوا الولايات المتحدة فى حربها على «داعش»، وتكمن المشكلة فى مطالبتهم بالحكم الذاتى الذى لا توافق عليه تركيا، والتى هددت مؤخرًا بدفنهم مع أسلحتهم إن لم يسلموها طواعية، وسوف يتعين على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تجد حلًا دبلوماسيًا لهذه المعضلة يوفر ضمانات ما لأكراد سوريا لا تثير هواجس أمنية تركية، وإلا فهو الصدام الذى سيحرج الإدارة الجديدة أيما إحراج، فهى إن تخلت عنهم فقدت مزيدًا من صدقيتها، وإن أيدتهم دخلت فى صدام مربك وغير مرغوب فيه.

أما روسيا فهى بالتأكيد الخاسر الأكبر على الصعيد العالمى، فقد سقط النظام الذى كان تدخلها العسكرى المباشر لحمايته اعتبارًا من 2015 بداية لاستعادة حضورها العالمى المؤثر خارج مجالها الحيوى المباشر إذا جاز التعبير، وسقطت معه من الناحية الفعلية المزايا الاستراتيجية التى ترتبت على هذا الوضع، والمتمثلة فى القاعدتين البحرية والجوية على شواطئ المتوسط فى قلب المياه الدافئة حلم روسيا القديم الدائم، وصحيح أن وضعهما لم يُحْسَم حتى الآن، وأن حكام دمشق الجدد لن يجرؤوا فى مرحلة تثبيت سلطتهم على الصدام مع روسيا، خاصة إن تركيا لا يمكن أن تفكر فى هذا، غير أنه يمكن القول إن القيمة الاستراتيجية الفعلية لهاتين القاعدتين قد انتهت، بمعنى أن توظيفهما فى خدمة المشروع الروسى لإعادة هيكلة النظام العالمى لم يعد واردًا، والأيام قادمة على أى حال، غير أن المسألة فى تقديرى تتجاوز هذا بكثير إلى ضرورة مراجعة الأسس التى بُنيت عليها السياسة الروسية فى سوريا منذ 2015، فقد جمعت هذه السياسة بين متناقضات تمثلت فى الشراكة مع إيران فى الدفاع عن نظام الأسد، والتسامح مع الغارات الإسرائيلية على الأهداف الإيرانية فى سوريا، والجمع بين المتناقضات الروسية والتركية والإيرانية فى صيغة الآستانة التى انقلبت عليها تركيا فى النهاية، وبالتالى فإن الأمر يتطلب مراجعة حقيقية لمثل هذه السياسات التوازنية إن كانت روسيا تريد لحضورها الفاعل فى المنطقة أن يستمر.

نقلا عن الأهرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *