مع سقوط جدار برلين وما تبعه من انهيار الاتحاد السوفياتي ثم تفكُّك حلف “وارسو” مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتهت حقبة الحرب الباردة وتلاشى – مؤقّتًا – كابوس اندلاع حربٍ عالميّة ثالثة بين القوى النوويّة الكبرى، لكن مع تصاعد الصّراع العسكري في شرق أوروبا خلال الأشهر الأخيرة عاد شبح الحرب الباردة والتهديد النووي يلاحق البشريّة من جديد.
التوتّرات زادت حدتّها في الفترة الأخيرة، ولا سيما مع التصعيد غير المسبوق على جبهة الحرب الأوكرانيّة التي حدّدت ملامح الصراع في المستقبل بين حلفٍ تتزعّمه الولايات المتحدة ويضمّ دول الـ”ناتو”، وحلفٍ آخر تمثّله روسيا – الطرف الآخر في الحرب – ويضمّ الصّين وكوريا الشماليّة وإيران، وهي الدول التي تدعم موسكو اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا في هذا الصراع.
في مارس/آذار الماضي، صادق الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن على خطةٍ استراتيجيّة نوويّة على أن يتم عرضها على الكونغرس في يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك بدعوى “مواجهة الخطر المتعاظِم من احتمال أن تشنّ الصين وروسيا وكوريا الشماليّة ضربات نوويّة منسّقة ذات يوم”.
التطوّرات رسّخت أُسُس معادلةٍ عالميةٍ توافق مراقبون على أنها نقطة بداية عمليّة لـ”حربٍ باردةٍ جديدة”
وبعد نحو 8 أشهر من مصادقة الرئيس الأميركي على تلك الاستراتيجية، أعلن نظيره الرّوسي فلاديمير بوتين عن تعديل عقيدة بلاده النوويّة بما يسمح باستخدام “الأسلحة النوويّة في مواجهة عدوانٍ من دولةٍ غير نوويّة لكنه تمّ بمشاركة أو دعم دولة نوويّة”، ويقضي التعديل بأن تردّ روسيا على أي عدوان يُشكّل “تهديدًا خطيرًا لسيادتها ولو بأسلحةٍ تقليديّة”.
وبرّر الكرملين قرار تعديل العقيدة النوويّة الروسيّة، بأنّه جاء في إطار الردّ على قرار إدارة بايدن السّماح لأوكرانيا بإطلاق صواريخ أميركية بعيدة المدى على مناطق داخل روسيا، وهو ما حدث بالفعل، إذ استخدمت كييف منظومة الصواريخ الباليستية الأميركية الصّنع “إم جي إم-140 أتاكمز” (MGM-140 ATACMS) لضرب العمق الروسي، ما دفع موسكو للردّ بإطلاق صاروخ “أوريشينك” الفرط صوتي على هدف في أوكرانيا الأسبوع الماضي.
رسّخت تلك التطوّرات أُسُس معادلةٍ عالميةٍ جديدة، توافق مراقبون على أنها نقطة بداية عمليّة لـ”حربٍ باردةٍ جديدة”، تُعيد سباق التسلّح إلى ما كان عليه إبّان عقود منتصف القرن الماضي، وتُنهي حقبة الأحاديّة القطبيّة التي تحكّمت خلالها الولايات المتحدة بمصير العالم.
بعد تجربة الصاروخ الباليستي المتعدّد الرؤوس الذي أطلقه الروس على إحدى المدن الأوكرانية، حذر بوتين من أنّ “بلاده قد تضرب أهدافًا عسكريّةً لأي دولة تورّد أسلحةً تُستخدم لمهاجمة روسيا”، لافتًا إلى أنّ إجراء تجربة قتاليّة لمنظومة “أوريشنيك” جاء ردًّا على التصرّفات “العدوانيّة” لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو) ضد موسكو.
لا يمكن الجزم بأنّ التطوّرات المتصاعدة في شرق أوروبا قد تصل إلى استخدام الأسلحة النوويّة، إذ ما زال الخبراء يتعاملون مع الخطوة الروسيّة على أنها رسائل تحذير خشنة، لكنّ التوتّرات قد تدفع الأمور إلى حافّة الجنون، فالصراع دخل “مرحلةً حاسمةً، وخطر اندلاع حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ بات جدّيًا وحقيقيًا”، حسب تعبير رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك.
يراهن البعض على أنّ وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الشهر ما بعد المقبل قد يساعد على إخماد جذوة تلك الأزمة، فرجل الصفقات الذي تربطه علاقة صداقة بالرئيس الروسي، كان قد وعد بوقف الحرب في شرق أوروبا “خلال يومٍ واحد”، إلا أنّ نجاحه في تحقيق وعدِه صار مشكوكًا فيه بعدما فخّخ له غريمه بايدن الأرض بمنحه كييف الضّوء الأخضر لاستخدام صواريخ أميركية لضرب العمق الروسي.
بصرف النّظر عمّا إذا كان ترامب سينجح في تلك المهمة أم أنه سينجرّ إلى المستنقع الأوكراني، وبصرف النّظر أيضًا عن مدى تماسك التحالف المناوئ للولايات المتحدة والذي يعتقد البعض أنّ عدم تجانسه وتعارض مصالح بعض دوله التي لا يجمعها إيديولوجيا ولا ثقافة قد لا يسمح له بالاستمرار في مواجهة ممتدّة “باردة كانت أم ساخنة”.. ما يعنينا هنا نحن العرب هو تأثير ذلك الصراع أيًّا كان مسمّاه وتوصيفه في منطقتنا (استقرارها، أمنها القومي، ومصالحها الاستراتيجية).
أين سنقف؟… وإلى أي طرف سننحاز؟… ومن هو الحلف الأقرب إلى دعم قضايانا وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة؟… وهل نملك القدرة على “عدم الانحياز” ودعوة دول الجنوب إلى إقامة تكتّل ثالث يراعي مصالح شعوب العالم الثالث؟… أم أنّ نُخبنا الحاكمة وكعادتها ستقف خلف الحلف الذي يدعم بقاءها واستمرارها في السلطة؟
إما أن تظلّ المنطقة العربية المنهكة تدور في أفلاك التبعيّة لقوى أخرى أو يضع نظامها مشروعًا للمستقبل
إجابات تلك الأسئلة وغيرها من أسئلة “التنميّة الاقتصاديّة والتطوّر التكنولوجي والإصلاح السياسي والديموقراطي”، هي التي ستحدّد شكل المنطقة ومستقبلها، فإما أن تظلّ المنطقة المنهكة، التي تفكّك بعض دولها فيما تحيط النيران ببعضها الآخر، تدور في أفلاك التبعيّة لقوى أخرى، أو تعلن عن نفسها ويضع نظامها مشروعًا للمستقبل يراعي مصالح الشعوب المتطلّعة إلى الحرّية والاستقلال والتقدّم.
“نكون أو لا نكون”، هذا هو التحدّي الذي يجب على قادة النظام العربي أن يضعوه أمامهم قبل أن تفرض عليهم المعادلات الجديدة أوضاعًا سيكون من الصعب تغييرها لو مضت الأمور في مسار صراعٍ دولي ممتدّ.
(نقلا عن “عروبة 22”)