نصف نصر ونصف هزيمة لا تصنع شرق أوسط إسرائيلي

تفصح التطورات العسكرية الأخيرة في سوريا عن تعقيد المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. تفصح بالتالي عن تسرع الإعلان الأمريكي – الإسرائيلي أنهما يوشكان على بناء شرق أوسط جديد.

فالهجوم المخطط له بعناية كما يوحي اتساع نطاقه ونوع الأسلحة المتطورة التي استخدمتها قوات تحرير الشام «جبهة النصرة» المنتمية لتنظيم القاعدة على ريف إدلب وحلب وحماة يكشف أولا عن حجم مهول من اختلاط أوراق اللعبة وثانيا عن تعدد اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، وتنازع مصالحهم بصورة قد تجعل المنطقة مقبلة على حالة تصعيد عسكري وفوضى وليس على نظام مهندس أمريكيا وإسرائيليا تستقر فيه الأمور لصالحهم على طول الخط.

لابد هنا من ملاحظة أن عودة الجماعات الإرهابية في سوريا لحالة الهجوم الكاسح بعد سنوات من الهزائم تمت بعد أيام قليلة من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. والأهم من ذلك بعد إعلان نتنياهو أن إسرائيل ستحقق جزءًا مهمًا من أهدافها منه طالما استمرت في حرية العمل العسكري وضرب طريق بيروت دمشق وكل مسار يربط لبنان بسوريا لمنع حزب الله من إعادة بناء نفسه عسكريا. وهو الطريق الذي يدعي أنه الطريق الأساسي الذي تقوم إيران بتهريب الأسلحة لحزب الله من خلاله. جاء هجوم جبهة تحرير الشام بقيادة الإرهابي المعروف أبو محمد الجولاني ليحقق وبالحرف الواحد هدف نتنياهو بإضعاف النظام السوري وإشغاله في الصراع الداخلي خاصة وأن التحالف الاستراتيجي الذي صنعه حافظ الأسد مع إيران بعد الثورة الإسلامية كما يقول الإسرائيليون يجعل سوريا وبعدها حزب الله في لبنان درة التاج للنفوذ الذي اكتسبته طهران في المنطقة.

يعتمد تنظيم تحرير الشام -كما كشفت اعترافات صريحة لمسؤولين عرب كبار سابقين – ماليا وعسكريا على تحالف قادته واشنطن وشمل دولا إقليمية ودولا عربية وهو بالتالي نموذج لخلط مذهل في الأوراق وكيف تجد دولا -مؤيدة للحق الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية – نفسها منخرطة في عملية تخدم أهداف نتنياهو المعلنة قبل أيام في ضرب جناح المقاومة اللبناني لأنه أعاق مشروعها بعد ٢٠١١ في إسقاط النظام السوري.

كان طبيعيًا أن تقول طهران إن واشنطن وتل أبيب وراء هجوم حلب بعد تسريبات إسرائيلية واضحة أن استمرار الهجوم الحالي لتنظيمات التطرف السورية يصب في مصلحة إسرائيل في منع حزب الله من تعويض خسائره في السلاح وفي استكمال ما تسميه تل أبيب النجاح في كسر حلقة النار التي كانت إيران قد نجحت في تطويق إسرائيل بها.

التطورات الخطيرة في الوضع السوري تفصح عن أن باب المفاجآت في الشرق الأوسط مازال مفتوحا على مصراعيه، وأن مخاطر التوقع والتنبؤ السياسي بما تقبل عليه شعوب المنطقة تزداد صعوبة وغموضا.

فالهجوم الأخير لبقايا القاعدة سيستفز أطرافا إقليمية ودولية بدا أنها على استعداد للانحناء لموجة نشوة الفوز الأمريكية – الإسرائيلية العالية في الشهور الثلاث الأخيرة وعدم استفزاز الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب بخطوات مواجهة تعقد العلاقة معه. النشوة الإسرائيلية – الأمريكية تمثلت في أنها تمكنت من التخلص من «إسماعيل هنية وحسن نصرالله ويحيى السنوار» وأضعفت قوة حماس وحزب الله العسكرية والتنظيمية وأنها توجت ذلك بالتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في لبنان تزعم أنها ترجمت فيه المكاسب العسكرية لإنجاز سياسي يعطي نصرا صريحا لإسرائيل والولايات المتحدة.

على رأس هذه الأطراف القابلة للاستفزاز من احتمال سقوط دمشق والدولة السورية ثم العودة للانخراط في المباشر في المشهدين السوري واللبناني هما إيران إقليميا وروسيا دوليا. كما ستشعر دول مثل مصر التي تقف في مواجهة قوى الإسلام السياسي منذ سنوات بقلق شديد من انتصار جماعات القاعدة في سوريا يمكن أن تحيي جماعات الإرهاب المحلية في سيناء والتي ضعفت وذبلت في السنوات الأخيرة. السعودية أيضا من الدول التي قد يقلقها صعود جماعات العنف في سوريا وكتب صحفي سعودي معروف أن الجولاني، المنسل من تنظيم القاعدة، سيكون من «الكوارث العظمى لو حكم على رقاب السوريين»

من هنا فإن الصراع في سوريا -بعد عودة الطائرات الروسية لشن هجمات على تحرير الشام وإسناد الجيش النظامي السوري بأسلحة جديدة وربما بعودة إيرانية نشطة لدعم الأسد – مرشح للاستمرار لفترة طويلة والبقاء في حالة نصف نصر ونصف هزيمة لطرفيه المتحاربين. وهذا الوضع بصورة أو بأخرى يمكن وصف الوضع على الجبهة اللبنانية بين حزب الله وإسرائيل به بعد الاتفاق الأخير لوقف النار. فالمقاومة اللبنانية حققت نصف نصر بنجاحها في ألّا يتضمن الاتفاق نزعا لسلاحها أو إقامة منطقة عازلة تحمي إسرائيل في جنوب لبنان. لكنها تلقت نصف هزيمة بموافقتها المؤقتة على كسر وحدة الساحات وإنهاء ربط وقف إطلاق النار في الجبهة اللبنانية بوقف إطلاق النار في غزة وبموافقتها وهذه هي الأخطر على آلية عسكرية يقودها جنرال أمريكي لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار وهي آلية لها سوابق في الانحياز لإسرائيل في جبهات أخرى. يتذكر الجميع كيف أن مساوئ اتفاقيات أوسلو تضاعفت مئات المرات بعد دخول المنسق الأمني الأمريكي كيث دايتون على الخط بخطته الشهيرة للتنسيق الأمني التي حولت فعليا قوات السلطة الفلسطينية إلى مركز متقدم لحماية أمن إسرائيل وتعقب المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية فيما يعرف بالتنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل.

هندسة الشرق الأوسط على مقاس مصالح أمريكا وإسرائيل على حساب شعوب المنطقة الأصليين إذن ليست بيد واشنطن وتل أبيب وحدهما فهناك أطراف أخرى لها مصالح استراتيجية ولن تتخلى عنها بسهولة إلا إذا نجح ترامب في تقديم صفقات مقايضة مفاجئة لموسكو في النزاع الأوكراني على سبيل المثال.

أيضا ورغم خضوع النظام الرسمي العربي للإرادة الأمريكية وتحكم مسألة الثأر من تجارب الماضي في سلوكيات بعض وحداتها وقياداتها فإن أطرافًا محلية في الإقليم ستستمر في مقاومة المشروع الصهيوني لابتلاع الضفة وترحيل الفلسطينيين منها ومن قطاع غزة. الشواهد التاريخية تقول أيضا: إن تغيير الشرق الأوسط في اتجاه واحد وعلى طول الخط لصالح قوة عظمى كأمريكا لم يتحقق أبدا بصورة كاملة فحتى أنجح محاولة في التاريخ الأمريكي للهيمنة على الشرق الأوسط التي قادتها إدارة نيكسون – وكيسنجر والتي أخرجت مصر من الصراع وألحقتها بالاستراتيجية الأمريكية- كانت تتوخى تحالفا إقليميا وقتها بين السادات في مصر وشاه إيران في طهران تنسق فيه واشنطن بينهما مع إسرائيل. هذا التحالف المخطط له تلقى ضربة هائلة بسقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية المعادية للغرب. وقس على ذلك محاولة بوش الابن ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس عن بناء الشرق الأوسط الكبير والجديد. والأخطر محاولة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية تماما بما سمي صفقة القرن والتي كان الرد الأولي عليها في معركة سيف القدس ٢٠٢١ والرد الحاسم في طوفان الأقصى ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣.

مازال الوقت مبكرا أمام أي رئيس وزراء إسرائيلي أو أي رئيس أمريكي أن يعلن أن فلسطين قد ماتت والعرب قد انتهوا وإيران قد عادت إلى عهد الشاه شرطيا للعم سام في الخليج.


نقلا عن عمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *