“وعليكم السلام”.. كتاب يتمرد على الاعتراف بالعدو الصهيوني

رباب يحيى


الكتاب: وعليكم السلام
المؤلف: محمود عوض
الناشر: دار المستقبل العربي، القاهرة

“إذا كنا قد عجزنا عن أن نكون أسود الغابة.. فهل حُكم علينا أن نكون فئرانها؟!”.
بهذه العبارة المتمردة، في رفضها للخنوع، اختار عندليب الصحافة المصرية محمود عوض أن يفتتح كتابه الملهم “وعليكم السلام”. إنه كتاب يضاف إلى كل الكتب الشهيرة التى كتبها محمود عوض، بأسلوبه الرشيق وعبارته اللاذعة وإنتمائه إلى جيل مختلف في عالمنا العربي يصر على فتح كل الملفات وطرح كل القضايا بأعلى صوت.
من يقرأ كتاب “وعليكم السلام” للمرة الأولى سيظن أن مداده لا يزال ساخنًا، وأنه موجه إلى أنظمة الحكم العربية، ففي مقابل العجز عن تحقيق إزالة الكيان الصهيوني فورًا من الخريطة، فإننا نجد من بيننا من يود أن يمنح الكيان الصهيوني الخريطة كلها.
كان “محمود عوض” مرجعاً لكل الباحثين في الشأن العربي الإسرائيلي، فهو صاحب مبادرة “اعرف عدوك”، التي نقل فيها للقارئ المصري عبر مجلة “آخر ساعة” وبرنامج في الإذاعة، الكتب والدراسات الصهيونية، أولًا بأول، مراعيًا وضع إطار العداوة مع العدو الصهيوني في وجدان كل مصري وعربي. وعقب توقف معارك حرب أكتوبر عام 1973، ولجوء السادات المنفرد لقرار الاستسلام المشين، أُبعد عوض عن المجال الإعلامي المصري.
وفي فترة كئيبة من حياته، رأى في المنزل المجاور لبيته، علمًا صهيونيًا يرفرف على احتفال رسمي بافتتاح أول سفارة في دولة عربية، وأبصر نجمة داوود مُحلقة بعدما اتخذت السفارة الإسرائيلية موقعها في ذلك الشارع الذي يسكن به، ليصبح العدو جاراً لأكثر كارهيه، فانكب محمود عوض على كتابه “وعليكم السلام”، كجزء من معركة أخيرة، اختار أن يخوضها قبل أن ينتقل إلى جوار ربه. و لم يتوان في سبيل ذلك، في طرق كل الأبواب، حتى تصل حقيقة “إسرائيل” لأبسط البيوت المصرية، كأنما يترك رسالة في زجاجة يريد أن تصل لأقدام الواقفين على شواطئ الخطر.
وفي وقت كانت تعلو الأصوات، محاولة التشويش على أي نبرة معارضة لكامب ديفيد، ظل محمود عوض يعكف على مشروع هذا الكتاب ليتركه للأجيال، وهو في ظاهره سطور مكتوبة، غير أن باطنه ينطوي على حلم بحار جرئ غاص في تاريخ عدو أفتك أسلحته هي أن يمحو الذاكرة.
في كل صفحة سطرها الكاتب، تستشعر كم كان ينزف تعبًا ليتمرد بالمعرفة، بتفاصيل ينتشلها من آبار عميقة، تعود لقبيل كتابته بنحو أكثر من مائة عام، للحديث عن أول تصور صهيوني متكامل في ثلاثينيات القرن الـ19، وليس كما اعتاد تداوله بأنه مع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول بقيادة تيودر هرتزل عام 1897، يضغط على الجروح المتقرحة في هيئة أسئلة عن ذنب مصر في الحرب، وما قدمته لفلسطين، فيفند برشاقة بين زخم المعلومات: رؤيته بأن الأمن القومي يبدأ بحماية الحدود الخارجية وليس الداخل كما يظن البعض، ويعود للحظة اضطرار الجيش المصري وقت “محمد علي” للانسحاب من الشام ـ فلسطين ولبنان وسوريا كما كان يطلق على تلك البقعة كاملة ـ وكم كان هذا بداية التدهور الداخلي لمصر حتى وصل الأمر إلى احتلالها.
يقول المؤلف في (صفحة 35): “إن فكرة إسرائيل كدولة لم تولد في سنة 1948، حينما أعلنت رسمياً، ولا في سنة 1897 حينما انعقد المؤتمر الصهيوني الأول، لقد ولدت قبل ذلك في أوراق وأرشيف الدول الكبرى، وكانت لحظة الولادة هي نفسها لحظة انحسار مصر وإرغامها على الانكفاء على نفسها، إن إسرائيل ـ الدولة العازلة في فلسطين ـ ولدت في الربع ساعة الأخيرة لإرغام مصر على الانسحاب من الشام، لهذا يجب أن تبدأ القصة من أحداث هذه الربع ساعة الأخيرة، بالضبط..ففي نوفمبر سنة 1831، طلب محمد علي من الجيش المصري التوجه إلى فلسطين للاستيلاء عليها وتحريرها، كان والي عكا ـ ودائماً هناك عكا في التاريخ المصري ـ قد بدأ يمارس الابتزاز ضد قوافل التجارة المصرية من، وإلى، الشام، وهكذا أرسل محمد علي ابنه إبراهيم على رأس الجيش لكي يحرر فلسطين”.
ظل كثيرون من الكتاب، مترددين في تفسير دوافع “محمد علي” للذهاب إلى الشام من البداية، هل ذهب إلى هناك تعبيراً عن طموح شخصي، أم لاعتبارات موضوعية؟، هل كان ما حدث هو مجرد رغبة في التوسع، أم رغبة في الوحدة والتكامل؟. والذين يؤكدون رغبة التوسع والطموح الشخصي، يستندون في جميع مراجعهم إلى كتابات الإنجليز، وهي الكتابات التي كان من الطبيعي أن تروج لها إنجلترا، خاصة على ضوء وجودها الفعلي كقوة احتلال لمعظم العالم العربي طوال المائة سنة التالية، لكن، حتى بصرف النظر عن تلك النقطة الهامة، فإن الموضوع الأساسي لم يكن بالنسبة لإنجلترا هو الدوافع وإنما النتائج، فسواء ذهب “محمد علي” إلى الشام بطموح شخصي توسعي، أو ذهب لاعتبارات موضوعية، فالنتيجة بالنسبة لإنجلترا واحدة في الحالتين: أن هناك دولة عربية قوية وموحدة تولد أمام عينيها في نفس المنطقة التي تحتجزها هي لنفسها مستقبلاً.
كما أن أوروبا لم تنس أن الذي أذاقها الهزيمة المُرة والساحقة في غزوها الصليبي للسيطرة على الشرق الأوسط خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كان دولة عربية موحدة فوق نفس المساحة: مصر والشام.
وبصفة خاصة، كانت إنجلترا تحشد قواها في تلك الفترة بالضبط للانطلاق في أكبر مد استعماري عرفه التاريخ الحديث، وهي لم تكن تريد أن تولد أمام عينيها مثل تلك الدولة الموحدة، بتلك القوة، فتصبح حاجزاً مسبقاً أمام التقدم الاستعماري البريطاني القادم حالاً في الطريق. وسيظل استعمارها للهند مهدداً ما لم تسيطر تماماً على طريقي المواصلات الرئيسيين في الشرق: طريق الشام/البصرة/المحيط الهندي.. وطريق مصر/البحر الأحمر/المحيط الهندي.
لذلك، يقول الكاتب في (صفحة 54): “هكذا، بادرت إنجلترا كما رأينا إلى احتلال عدن في سنة 1838، وهي مفتاح البحر الأحمر من الجنوب، وبادرت أيضاً بعدها إلى احتلال البصرة (بعد الانسحاب المصري) وهي مفتاح الخليج العربي”.
ثم يقول في (صفحة 58): “تلقى محمد علي دعوة من بالمرستون وزير خارجية إنجلترا، في 4 أغسطس 1839 بواسطة القنصل الإنجليزي العام في مصر: إن إنجلترا تعترض على الوجود المصري (الحالي) في الشام، ولكن أوروبا كلها لا تعترض على توسعه في أفريقيا، بل على العكس: ستنظر إليه بعين العطف، ويستطيع أن يلقى هناك ضمانات تجعله بمأمن من أي هجوم”.
لم تكن القضية إذن قضية توسع، لكنها من وجهة النظر البريطانية، ومن البداية، قضية عدم السماح بقيام دولة عربية موحدة في مصر والشام، وقد رأينا أنه قد تم بالفعل إرغام مصر قبل نهاية سنة 1840، باتفاقية لندن، على الانسحاب من الشام، بعد مواجهة دامية مع أسطول بحري متحالف قادته بريطانيا ضدها هناك، وحصار بحري على الأسكندرية.
ويكمل المؤلف: “في سنة 1839، نفس السنة التي طلبت فيها إنجلترا من مصر الانسحاب من اليمن، وضغطت فيها على عواصم أوروبا للتجمع خلفها من أجل إرغام مصر على الانسحاب من الشام (سوريا، فلسطين، لبنان)، بدأت الجهود تزداد تكثيفاً وتركيزاً في المشروع اليهودي الإنجليزي المشترك لتمهيد الأرض لاغتصاب فلسطين”.
وهنا جرت ثلاث وقائع بالذات، يرصدها المؤلف كما يلي:
أولاً: نشرت جريدة “التايمز” البريطانية، المعروفة بصلتها الوثيقة بوزارة الخارجية، مقالاً في 24 يناير سنة 1839، تطالب فيه بالوقوف موقفاً واضحاً مؤيداً “لحق” الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين. وأن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأزمة السياسية القائمة: أزمة إرغام مصر على الانسحاب من فلسطين والشام كلها، إن إزالة الوجود المصري في فلسطين هو إزالة للسد المنيع القائم ضد استعمار فلسطين.
ثانياً: بعدها بأسبوع واحد، تلقى القنصل البريطاني في القدس (و.ث.يونج) تعليمات من وزارة الخارجية في لندن، بناء على طلب بالمرستون شخصياً، وهي تعليمات صريحة وقاطعة: أن عليه، أولاً، أن يوافي وزارة الخارحية في أسرع وقت ممكن بمعلومات دقيقة عن حالة وعدد اليهود المقيمين بفلسطين. وعليه، ثانياً، أن يعتبر من الآن فصاعداً أن حماية اليهود في فلسطين بشكل عام تمثل واجباً من واجبات الدولة (إنجلترا).
هنا بريطانيا تريد لليهود في فلسطين حقوقاً سياسية لأول مرة، علماً بأن اليهود في إنجلترا نفسها لم يتمتعوا بالحقوق السياسية والمدنية إلا في عام 1890.
ثالثاً: في نفس الوقت توجه إلى فلسطين المليونير اليهودي “موسى حاييم مونتفيور” ـ وكان ذلك في ربيع 1839 ـ لكي يجتمع في منطقة صفد بفلسطين بممثلي الجالية اليهودية الصغيرة هناك (وكانوا أساساً من البرتغال وألمانيا). وقام مونتفيور على الطبيعة بمعاينة مساحات من الأراضي، حتى يتبلور الشكل النهائي للمشروع الذي يسعى لتحقيقه منذ فترة.
يكمل المؤلف في (صفحة 62): “اتجه مونتفيور إلى القاهرة، لمقابلة محمد علي.. بدأت المقابلة في يوم 13 يوليو سنة 1839، وبدأ مونتفيور يعرض على الباشا: إننا نفكر في تأسيس شركة استثمار إنجليزية في لندن، مهمتها تشجيع عودة اليهود إلى فلسطين للإقامة فيها، ولهذا الغرض فإن مثل هذه الشركة تحتاج إلى استئجار منطقة في الجليل (شمال فلسطين) لمدة خمسين سنة، وتلك المنطقة عاينتها بنفسي وهي تشتمل على ما بين مائة إلى مائتين من القرى الفلسطينية، وبالطبع سوف تسدد الشركة إلى معاليك، باعتبارك والي مصر الذي تحكم فلسطين، ضريبة استثمار عن هذه الأراضي التي سنستغلها لمصلحتنا، ومصلحتك، ومصلحة أهالي المنطقة أنفسهم الذين سيعمهم الخير الوفير، فضلاً عن أن اليهود سوف يدعون لك في صلواتهم بأن يجعلك الله زعيماً مباركاً للشرق كله”.
لكن، لم يكن محمد علي بالبلاهة التي تصورها فيه المليونير اليهودي المتحمس للأعمال الخيرية، وكان الجواب الفوري القاطع من محمد علي: الرفض.. جملة وتفصيلاً.
نلاحظ هنا، أن الحركة الصهيونية لم تجد أن فرصتها الذهبية قد بدأت إلا مع إرغام مصر على الانسحاب من فلسطين، ثم انكفاء مصر إلى الداخل، ومن ثم انهيار الأمن المصري بالتدريج، انهياراً أصبح هو المقدمة الأكيدة لاحتلال مصر نفسها فيما بعد.
فبمجرد أن تم إرغام مصر على الانكفاء إلى الداخل، انطلقت أوروبا بشراسة لاستعمار المنطقة جزءاً جزءاً، وبالطبع فازت إنجلترا بنصيب الأسد في المشرق العربي، فبعد أن احتلت عدن، انطلقت بعدها لاحتلال مسقط وعمان وكل إمارات الخليج العربي، ثم احتلت مصر نفسها، والسودان، والعراق، وفلسطين.
يقول المؤلف في (صفحة 68): “والمصريون الذين تم إرغامهم على الانسحاب بطريقة مأساوية عبر فلسطين في سنة 1840، لن يقدر لهم أن يعودوا مرة أخرى إلا بعد 77 سنة كاملة، حينما جرجرتهم إنجلترا كقوة احتلال خلفها، لكي يقيمون لها التحصينات في سيناء ويمدون لها خطوط السكك الحديدية حتى فلسطين. إن الجيش البريطاني المتقدم نحو فلسطين في سنة 1917، عبأ معه أكثر من مائتي ألف من المصريين حسب الأرقام البريطانية نفسها، وحيث سقط من وحدات الهجانة المصرية وحدها ـ بالإحصائيات البريطانية مرة أخرى ـ أكثر من ستة آلاف قتيل وجريح، ووقتها كانت إنجلترا تمارس الدرس الأول مرة أخرى في التاريخ المصري: أن الدفاع عن مصر يبدأ من فلسطين”.
وحينما قررت مصر أن تدخل الحرب في فلسطين، مع الدول العربية الأخرى، فإنها قررت ذلك في 13 مايو سنة 1948، وأصبح على مصر أن تعوض نوماً طويلاً، وتخديراً طويلاً تعرضت له، واستمر 31 سنة على الأقل منذ صدور وعد بلفور 1917. وأصبح على مصر أن تستعد لحرب، كان موعدها في سنة 1917، فتقرر دخولها في سنة 1948.
أول مشروع “سلام” تقدمت به “إسرائيل” لمصر:
بقيام “إسرائيل” في المنطقة فعلاً سنة 1948، وقع الانفصال البري لأول مرة بين المشرق العربي والمغرب العربي، بكيان أجنبي غريب عن المنطقة، متحالف مع قوة عظمى من خارج المنطقة.
يقول الكاتب في (صفحة 128): “.. تقدمت إسرائيل بأول مشروع لها للسلام بعد أقل من ثمانية أشهر من قيامها، إلى مصر، والسبب في ذلك، كما قرره الإسرائيليون وقتها، هو (أننا لا نعني من الدول العربية غير مصر) والصلح المنفرد بين إسرائيل ومصر معناه عملياً بداية الطريق نحو فرض السلام الإسرائيلي على العالم العربي. وحتى يكون مضمون هذا (السلام الإسرائيلي) واضحاً، فإن “إسرائيل” أعدت بالفعل مشروعاً بمعاهدة كاملة للصلح المنفرد يتم إبرامها بين مصر و”إسرائيل”، وقامت إسرائيل بإبلاغ المشروع الكامل لتلك المعاهدة إلى الملك فاروق، ملك مصر حينئذ، بعد أقل من ثمانية أشهر من قيامها في فلسطين كدولة بقوة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، واختارت إسرائيل اثنين من رجال السياسة المصرية حينئذ لإبلاغ فاروق بمشروع المعاهدة عن طريقهما، هما: إبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكي، والدكتور محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ”.
هنا يسجل الدكتور محمد حسين هيكل ماحدث في مذكراته قائلاً: “تلوت مقدمة المشروع ومواده فتولاني العجب أشد العجب، لقد صيغ على غرار المعاهدة المصرية البريطانية التي عقدت في سنة 1936، لكن إسرائيل تملي فيه على مصر ما هو أقسى مما ورد في معاهدة 1936، فالدولتان الساميتان المتعاقدتان (مصر وإسرائيل) يجب ألا تتخذ أيهما سياسة في البلاد الأخرى تناقض سياسة الدولة الأخرى، ويجب أن تهب أيهما لنجدة الدولة الثانية إذا تعرضت للاعتداء، ويجب أن تعامل كلتاهما بشروط الدولة الأكثر رعاية في أراضي الدولة الأخرى، إلى غير ذلك من شروط أثارت دهشتي، حتى لقد ظننت أن المشروع لم يجرؤ أحد على إرساله إلى مصر، وأنهما أخبراني بذلك ليقفا على رأيي فيما تعتزم بلادهما التقدم به إلى الدولة العربية الكبرى”.
نجد أن حصيلة كل البنود السابقة هي أن تخرج مصر سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من العالم العربي، مستبدلة التزاماتها العربية، بالتزامات مع “إسرائيل”، تكون مناقضة ومعادية بالضرورة للحقوق العربية. وبصرف النظر عن مصير هذا المشروع في النهاية، فإن المهم هنا هو المضمون الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه وفرضه.
يقول المؤلف في (صفحة 149): “لكن فاروق، برغم فساده، أدرك أن إسرائيل لا تفكر في سلام مع مصر، وإنما تفكر فقط في عزل مصر وذبحها، ولهذا فإنه لم يجرؤ على المضي في هذا الطريق”.
كانت المعاهدة مجرد “فاتورة” تسجل هزيمة طاقم كامل من السياسيين، ففي السياسة كما في الحياة، لا تستطيع أن تحصل من الإناء إلا على ما سبق أن صببته فيه، وجيل الأبناء حينما ذهب إلى فلسطين سنة 1948، لم يحصل إلا على ما سبق أن صبه السياسيون وأعدوه له. فكان لابد من جيل جديد يملك الإرادة لكي يرفض الضعف والتخاذل والتراجع، ليس في مصر فقط، لكن في سوريا والأردن والعراق أيضاً، وبالفعل بدأت الانقلابات تتوالى بدءاً من سوريا، في احتجاجات عملية وعصيبة على كل ما جرى لسنوات طويلة سابقة. وفي مصر كان هذا الجيل هو نفسه الذي عاد من جبهة القتال في فلسطين، لكي يعلن رفضه عملياً في القاهرة، لقد استولى الجيش على السلطة في 23 يوليو سنة 1952.
يستعرض المؤلف بعد ذلك محاولات “إسرائيل” لعزل مصر وضرب أي محاولة لوجود قوة عربية موحدة، طوال فترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر، فيقول في (صفحة 186): “لقد جاءت نتائج حرب يونيو 1967 بفرصة ذهبية كبرى لكي تمارس إسرائيل ضغطها النفسي هذا على العرب وبالذات مصر، لكن إسرائيل، بينما حققت في تلك الحرب انتصاراً عسكرياً ضخماً، إلا أنها أصيبت في نفس الوقت بهزيمة سياسية كاملة عندما رفض العرب “السلام الإسرائيلي وهم منهزمون في ميدان القتال”.
يقول الكاتب في (صفحة 206): “.. مارست إسرائيل كلاً من أسلوب الإغراء وأسلوب الضغط عسكرياً وسياسياً بالاشتراك مع الولايات المتحدة لإقناع مصر بالخروج من الصراع مقابل استعادة سيناء كاملة، وبغير أية قيود تستلزم نزع سلاحها، بلا جدوى، وقد كشف جمال عبد الناصر عن ذلك في لقاء مع أساتذة وطلاب الجامعات في نهاية 1968، عقب مظاهرات الطلبة الشهيرة وقتها. قال عبد الناصر: إنني أستطيع أن أستعيد لكم سيناء كلها غداً إذا أردتم. ثم سكت عبدالناصر لحظات قليلة قبل أن يضيف قائلاً: ولكن أحداً منكم لم يتساءل عن ثمن ذلك، إن الثمن هو أن يكون هذا سلاماً منفصلاً لمصر مع إسرائيل، وتخلياً مصرياً عن القضية القومية، وانفصالاً كاملاً لمصر عن العالم العربي، فهل أنتم مستعدون لكل تلك النتائج؟. وبالطبع رفض الجميع وقتها أن تسدد مصر هذا الثمن تحت أي ظرف، ورغم أي ضغط”.
واعتباراً من يونيو 1967، حتى أبريل 1975، لم تكن إسرائيل قد أقامت في الأراضي العربية المحتلة كلها سوى 44 مستوطنة: ثمان منها في سيناء، وأربع في قطاع غزة، و15 في الضفة الغربية، و17 في الجولان. أما في الفترة من 1975 حتى 1977، أي خلال سنتين فقط، فقد ارتفع العدد إلى 86 مستوطنة، أي أن عددها تضاعف تقريباً مع تأكد الاتجاه العربي إلى السلام.
ثم نصل إلى أخطر ما في هذا الكتاب، حيث يعود محمود عوض إلى أكثر لحظات التاريخ المصري ألما ودلالة، ليفتح الجراح التي ما اندملت أبدًا، وهي لحظة سقوط مصر في طريق السلام الصهيوني، ولأن الاستدارة الحادة في الصراع العربي الإسرائيلي لايمكن الحديث عنها إلا بالحديث عن هنري كيسنجر، فقد خصص الكاتب مساحة كبيرة من الكتاب لعرض لمذكرات كيسنجر “سنوات البيت الأبيض”، و”سنوات الاضطراب”، وهما مجلدان يتجاوزان 2500 صفحة.
من تلك المذكرات، سنرى ما ساهم به كيسنجر، وبكلماته هو، في قلب الصراع الدرامي، وأهم ما جاء في هذه المذكرات مايلي:
ـ في (صفحة 296) يقول المؤلف نقلاً عن مذكرات كيسنجر “.. في الثامنة والثلث من صباح يوم الثلاثاء 9 أكتوبر 1973، اجتمع كيسنجر بالسفير الإسرائيلي دينتز، في “غرفة الخرائط” بالطابق الأرضي من البيت الأبيض، وهو المكان الذي يجري فيه كيسنجر مقابلاته السرية، وقد صحب السفير معه الجنرال “موردخاي جور” الملحق العسكري بسفارته، والإثنان يخبران كيسنجر بأن إسرائيل قد خسرت حتى الآن 49 طائرة، من بينها 14 فانتوم، إن هذا الرقم كان مرتفعاً ولكنه لم يكن مفاجئاً طالما أن مصر وسوريا في حوزتهما أعداد كبيرة من صواريخ أرض/جو السوفيتية المتطورة، لكن الصدمة الحقيقية كانت في تطور آخر: فإسرائيل خسرت حتى الآن خمسمائة دبابة، من بينها 400 دبابة على الجبهة المصرية وحدها.. ثم قال السفير الإسرائيلي لكيسنجر: إن هذه الأرقام يجب أن تبقى سرية، لأن الدول العربية التي مازالت تختار لنفسها موقف التحفظ حتى الآن قد تنضم إلى المعركة لو عرفت بحجم النجاح المصري السوري”.
ـ في (صفحة 353) يقول المؤلف على لسان كيسنجر في مذكراته: “بينما كنت قد بدأت في إعداد رسالة للرد على رسالة السادات الأخيرة، لكي أخطره بحل مشكلة حصار الجيش الثالث نهائياًً وتعهدنا بذلك، قام السادات نفسه بحل المشكلة من أجلنا، ففي الساعة الثالثة وسبع دقائق صباحاً من هذا اليوم (27 أكتوبر) تلقينا من حافظ إسماعيل (عن طريق القناة السرية للمخابرات) أن السادات قد وافق على إجراء مفاوضات مباشرة بين الضباط المصريين والإسرائيليين برتبة عميد لمناقشة النواحي العسكرية في تنفيذ قراري مجلس الأمن 338 و339 الصادرين في 22 و23 أكتوبر، إن المفاوضات يجب أن تتم تحت إشراف الأمم المتحدة، عند الكيلو 101 من طريق القاهرة/ السويس، والطلب الوحيد للسادات ـ كما يقول كيسنجر ـ هو أن يكون وقف إطلاق النار كاملاً قبل الاجتماع بساعتين، ومرور قافلة واحدة من الإمدادات غير العسكرية إلى الجيش الثالث تحت إشراف الصليب الأحمر والأمم المتحدة”.
لم يصدق كيسنجر نفسه، فهذا التنازل المفاجئ من السادات كان أكبر من كل ما تخيله!، من هنا يهنئ كيسنجر نفسه، ويهنئ إسرائيل، بهذا التطور المفاجئ، قائلاً: “هكذا فإن إسرائيل أصبحت على وشك الدخول في أول مفاوضات عربية إسرائيلية مباشرة منذ استقلالها، لقد احتفظت بالسيطرة على الطريق المؤدي إلى الجيش الثالث، بينما الأمم المتحدة تضغط بالإجماع علينا لكي تنسحب إسرائيل إلى خط 22 أكتوبر، وكل هذا مقابل السماح بمرور قافلة واحدة من الإمدادات غير العسكرية”.
الآن توقفت المواجهة العسكرية، وأصبح على المواجهة السياسية أن تبدأ، وفي هذه المواجهة السياسية فإن مصلحة مصر تكمن في هدف أساسي هو التسوية الشاملة، بينما مصلحة إسرائيل كما هي من البداية: الصلح المنفرد مع مصر وحدها، والفصل بينها وبين سوريا.
ثم يروي كيسنجر في مذكراته أن السادات قال له: “إن الجيش الثالث على أي حال ليس هو جوهر المسألة بين مصر وأمريكا، إنني مصمم على إنهاء أسطورة عبد الناصر”.
ثم كانت اتفاقية النقاط الست التي قبلها من كيسنجر بغير جدل أو مناقشة، تتضمن أخطر تنازلين تسعى إليهما إسرائيل، فأولاً وافق السادات عملياً على التنازل عن ضرورة انسحاب إسرائيل إلى خط 22 أكتوبر، وهو الانسحاب الذي كانت إسرائيل ملتزمة به بنص قرار مجلس الأمن الدولي، وبحكم الاتفاق الأمريكي السوفييتي المشترك، أما التنازل الجوهري الآخر، فهو أن إسرائيل أصبح في يديها الآن اعتراف مصري رسمي بأن الجيش المصري الثالث خاضع فعلاً لحصار إسرائيلي، وهو أمر كان يعني إسرائيل تماماً لكي تروج في العالم كله إدعاءها بأنها هي التي انتصرت ومصر هي التي انهزمت في حرب أكتوبر 1973.
ثم يسترسل كيسنجر في مذكراته مسجلاً الطلبات والرجاءات المثيرة للتأمل، من جانب السادات في تلك اللحظات الحاسمة بعد حرب كبرى سجل فيها الجيش المصري أروع إنجازاته، وحانت لحظة ترجمة تلك الإنجازات إلى نتائج سياسية يتحمل السادات بمفرده مسئوليتها.
يقول المؤلف نقلاً عن مذكرات كيسنجر في (صفحة 394): “إن السادات قال لي، وبلا مناقشة، إنه يوافقني على حضور مصر إلى مؤتمر جنيف، حتى ولو تحضر سوريا، ويوافقني على تأجيل بحث أي اتفاق لفض الاشتباك إلى ما بعد المؤتمر، ويوافقني على عدم الإشارة إلى القضية الفلسطينية من أساسها طوال مرحلة فض الاشتباك”.
كان كيسنجر يريد التوصل بسرعة إلى اتفاقية لفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، تكون ملائمة لإسرائيل لأبعد مدى، حتى يكون هذا في حد ذاته عاملاً ضاغطاً إضافياً على سوريا، وسابقة تلتزم سوريا بعد ذلك بالانقياد خلفها، لذلك ذهب موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، إلى واشنطن، في الرابع من يناير 1974، حاملاً معه المشروع الإسرائيلي الرسمي، الذي تأمل إسرائيل أن يبدأ منه مفاوضاته التالية مع السادات، وكان هذا المشروع “الافتتاحي” كما ينقل الكاتب عن مذكرات كيسنجر في (صفحة 404)، ينص على:
1- تبقى مصر في الأراضي التي حررتها في سيناء، في شريط طوله عشرة كيلو مترات تقريباً بمحاذاة الضفة الشرقية لقناة السويس.
2- تنسحب إسرائيل من “الجيب” الذي توجد فيه غرب القناة، وتنسحب في الشرق لتبقى في غرب مضايق سيناء محتفظة بها تحت احتلالها.
3- ترابط قوات من الأمم المتحدة في الوسط، فيما بين الخط المصري والخط الإسرائيلي بسيناء، في شريط عرضه هو الآخر عشرة كيلو مترات تقريباً بمحازاة الخط المصري من الشمال إلى الجنوب، فتصبح على هذا النحو فاصلاً بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية.
4- تلتزم مصر بتخفيض وسحب قواتها في الضفة الشرقية للقناة، لتتحول إلى قوة رمزية مكونة من ثلاث كتائب (حوالي 1800 جندي) بغير دبابات أو مدفعية أو دفاع جوي أو سلاح ثقيل عموماً.
5- إلى جانب ذلك تلتزم مصر بتخفيف وسحب قواتها غرب قناة السويس، فبعرض ثلاثين كيلو متراً بطول الضفة الغربية لا يكون لمصر أكثر من ثلاثمائة دبابة، وبلا دفاع جوي.
كان أهم ما يحققه هذا المشروع الإسرائيلي في الواقع، هو القضاء نهائياً على أي اختيار عسكري أمام مصر في المستقبل، فمصر لن تسحب فقط قواتها التي عبرت إلى سيناء بواسطة حرب كبرى، ولكن عليها أيضاً أن تزيل حائط الصواريخ الشهير الذي كانت قد أقامته بتضحيات جسيمة على امتداد الضفة الغربية لقناة السويس سنتي 1969 و1970، قبل وفاة جمال عبد الناصر، وهو الذي وفر الحماية الكاملة للعبور المصري سنة 1973، كما أن الإصرار الإسرائيلي في هذا المشروع على المجئ بقوات من الأمم المتحدة لتكون فاصلاً في سيناء بين الجيشين، يعني عملياً أن تستمر إسرائيل في احتلال 90% من سيناء محتمية في قوات الأمم المتحدة، بينما الجيش المصري نفسه يصبح مشلولاً عن أي تحرك لتحرير أراضيه فيما لو احتاجت مصر إلى ذلك.
لكن الفكرة الأكثر خطورة في هذا المشروع الإسرائيلي فوق هذا كله، هي أن مصر بعد أن عبر جيشها قناة السويس إلى سيناء في حرب ظل ينتظرها ويضحي من أجلها طوال ست سنوات سابقة، تصبح الآن ملتزمة بسحب جيشها المقاتل هذا إلى غرب قناة السويس مرة أخرى!. ويعترف كيسنجر نفسه في مذكراته، بأن القوات المصرية التي كانت موجودة في سيناء فعلاً، وعبرت إلى هناك بقوة السلاح، كانت تبلغ سبعين ألف جندي وسبعمائة وعشرين دبابة و994 قطعة مدفعية.
وبهذا الشكل، فإن هذا المشروع الإسرائيلي، لم يكن بأقل من اتفاقية استسلام مصري بالكامل، إنه مشروع لا يقبله إلا مهزوم من دولة منتصرة، فإذا كانت إسرائيل قد عجزت عن فرض مثل تلك الشروط على مصر من خلال الحرب، فالسخرية الشديدة أنها تأمل الآن في فرضها على مصر من خلال مفاوضات سلام يقوم بها رجلها الأول في واشنطن: هنري كيسنجر!.
مع ذلك، فقد اقترح كيسنجر على الوزراء الإسرائيليين أن يضعوا مشروعاً افتتاحياً آخر يكون أسوأ وأكثر تشدداً من مشروع دايان، لكي يصبح هو المشروع الذي يبلغه إلى السادات في أسوان، فإذا تململ السادات، أو اقترح مساعدوه إجراء تعديلات، فإنه لحظتها سوف يساوم السادات بحيث يصل معه في النهاية إلى قبول مشروع دايان.
المفارقة الكبرى هنا، بالنسبة لكيسنجر، أن السادات لم يرفض هذا المشروع الإسرائيلي المتشدد من حيث المبدأ، وصحب السادات كيسنجر إلى غرفة أخرى حيث جلس فيها على مائدة الاجتماع، إسماعيل فهمي وزير الخارجية، واللواء محمد عبد الغني الجمسي رئيس أركان حرب الجيش المصري.
ويسجل كيسنجر في مذكراته قائلاً: ” أن الجنرال الجمسي كان أقل كبحاً لجماح نفسه، وأقل سيطرة على مشاعره، لقد قرر بشكل قاطع أن هذه الأفكار التي يتضمنها المشروع الإسرائيلي تمثل شروطاً مهينة تماماً للجيش المصري، فهي تعري الضفة الشرقية لقناة السويس من أي وجود لدبابات مصرية مثلاً، أما بالنسبة للضفة الغربية لقناة السويس، فإن معنى الطلب الإسرائيلي بتخفيف القوات المصرية هناك، وبعمق ثلاثين كيلو متراً من القناة، أن تصبح القوات المصرية المسلحة الآن ـ بعد حرب أكتوبر ـ أضعف مما كانت عليه قبل الحرب”.
لقد وضع الجمسي إذن يده على جوهر هذا المشروع الإسرائيلي الذي يستمع إليه من كيسنجر لأول مرة، وعبر بأوضح الكلمات الممكنة عن الرفض القاطع للعسكريين المصريين لهذا المشروع الإسرائيلي، الذي يتجرأ على مصر بشكل لم تستطع إسرائيل أن تفعله في أعقاب كارثة 1967.
ثم يضيف كيسنجر قائلاً: “إن السادات ظل صامتاً لعدة لحظات، وبعدها سألني قائلاً: لماذا يسعى الإسرائيليون إلى إذلال الجمسي إلى هذا الحد؟!”.
كان هذا السؤال من جانب السادات، بتلك الصياغة العربية، عميق الدلالة، فالمسألة لم تكن على الإطلاق ضابطاً اسمه محمد عبد الغني الجمسي يتم التنصل منه إلى هذا الحد، فالجمسي لا يمثل نفسه، إنما هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، والخطة الإسرائيلية لا تقوم بالتالي على إذلال شخص اسمه الجمسي، لكنها تقوم على إذلال القوات المسلحة المصرية كلها في شخص الجمسي، أو في شخص أي فرد آخر يعبر عنها وينطق باسمها.
لكن، مع غرابة صياغة السادات لسؤاله على هذا النحو، إلا أن الإيجابي في الموضوع هو أن السادات أصبح يعرف ـ وبكلماته هو ـ أن قبول هذه الشروط الإسرائيلية الفادحة هو إذلال أكيد للقوات المسلحة المصرية.
مع ذلك، يسجل كيسنجر في مذكراته هذه، التي أفرد لها الكاتب فصلاً طويلاً من هذا الكتاب، أن السادات، وبطريقة لم يتوقعها كيسنجر نفسه مطلقاً، قد رد عليه بشكل مذهل، أنه يوافق على المشروع الإسرائيلي.
لقد حمل كيسنجر معه مشروعين إسرائيليين: مشروع احتياطي لمجرد المساومة، ومشروع حقيقي يتم التراجع إليه لو تطلب الأمر ذلك، الآن وجد كيسنجر أن السادات يقبل المشروع الاحتياطي الأكثر تطرفاً. بعدها بدأ السادات يطلب من “الصديق” كيسنجر: “أرجوك يا دكتور، أن تخفي تماماً حقيقة أن هذا مشروع إسرائيلي، دعنا نقول أنه مشروع أمريكي”، وبكل سرور وابتهاج يوافق كيسنجر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *