كتب عريب الرنتاوي مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية على حسابه الشخصي في فيسبوك:
طوال أشهر الحرب الوحشية على غزة، احتلّ سؤال “اليوم التالي” للحرب على غزّة، وتفريعاته، مكانة محورية، إن لدى عواصم القرار الإقليمي والدولي ذات الصلة، بالذات تلك المنخرطة في جهود الوساطة بين إسرائيل والمقاومة، أو على المستوى الفلسطينيّ الداخلي، بين قوى وفصائل وشخصيات، بالذات بين الحركتَين الكبريَين على الساحة: فتح وحماس.
من تفريعات سؤال “اليوم التالي”، الاقتراح الذي تقدمت به مصر وارتبط باسمها، وعُرف باسم “اللجنة الإدارية”، والذي سيحمل لاحقًا اسم “لجنة الإسناد المجتمعي”.. وهو اقتراح أطل برأسه منذ قرابة العام، تقول مصادر في حماس، إن فريقها التفاوضي “أوحى” به للمصريين، وتقول مصادر أخرى، إنه اقتراح أميركي في الأصل، أخذته القاهرة وعملت على بلورته وتطويره.
وفي أقل تقدير، ثمة من يقول إن واشنطن، ترى فيه “فرصة” للخروج من استعصاء “اليوم التالي”، بعد فشل محاولات تشكيل أطر بديلة لحكم حماس وحكومتها، تارة من رجالات العشائر، وطورًا من شخصيات أمنية سابقة وحالية، وأخرى منتمية لعوالم المال والأعمال.
اللجنة منذ أن تم الكشف عن الاقتراح بتشكيلها، جُوبهت بموجة انتقادات واسعة، وبدا في مراحل مختلفة، أن حماس ذاتها، ليست على يقين من جدوى وجدية هذه الخطوة، وذهبت الانتقادات الموجهة للفكرة والمقترح، في اتجاهين:
أولهما؛ أن تشكيل لجنة لغزة، قد يكرس انقسامها عن الضفة الغربية، وأن العمل بها قد يحيل “الانقسام الفصائلي” إلى “انفصال جغرافي”، وسيعمق مسار الشرذمة الذي ضرب “النظام الفلسطيني” منذ عقدين تقريبًا، وأن إسرائيل قد تعمل على استنساخها في الضفة من ضمن مشروع “روابط المدن” الذي لا يتورع وزراء في حكومة نتنياهو عن ترديده ودعمه، بديلًا عن السلطة ووريثًا لها، وتقطيعًا لكل السبل الموصلة لدولة فلسطينية مستقلة، وقابلة للحياة.
ثانيهما؛ القدر الكبير من الغموض المحيط بتشكيل اللجنة وتفويضها ونطاقات عملها وولايتها.. هنا تحدث البعض عن “غموضٍ مشبوه”، يراد به اختزال القضية الفلسطينية إلى مجموعة من “الخدمات “والمرافق”، فيما نظر البعض الآخر إليه بوصفه “غموضًا بناءً”، قد يوفر للمقاومة هامشًا للمناورة فيما خص وجودها ومؤسساتها وسلاحها.
غموض مفخخ أم بناء؟
غموض الورقة، عائد لخلوها من إجابات أسئلة من نوع: من سيتولى الأمن في غزة، وأي جهاز إداري ستقف اللجنة العتيدة على قمته، هل هو بقايا حكومة حماس، أم أجهزة ولجان تستحدث لهذا الغرض؟ وماذا عن الجانب المالي في عمل اللجنة، أقله الكلف التشغيلية التي ستمكنها من أداء دورها؟، هل ستقتطع من ميزانية السلطة أم سترد مباشرة إليها من مجتمع المانحين؟ متى ستباشر اللجنة عملها، أثناء الحرب أم بعدها، تحت الاحتلال أم بعد رحيله؟ ثم ماذا عن الموقف الإسرائيلي؟
فإذا كان مقترح تشكيل اللجنة، هدفه الالتفاف على “تعنت” السلطة ومقاومتها لمشاريع المصالحة ومبادراتها، فهل سيتمكن مقترح كهذا من الالتفاف على “تعنت” حكومة نتنياهو التي ما انفكت تردد “لا حماس ولا عباس” في غزة، بعد الحرب؟
بدت الفكرة في بواكيرها، “تجريدية” للغاية، تثير من الأسئلة أكثر مما توفر الأجوبة، وفي حوار مع أحد قادة حماس المشاركين في المفاوضات منذ بدايتها، قال إن الوفد طرح سيلًا من الأسئلة على الإخوة المصريين، دون أن يجد جوابًا شافيًا عنها، لكن جولات لاحقة من الحوارات والمحادثات، أمكن لها إجلاء الصورة بعض الشيء، في حين ظلت هناك أسئلة كثيرة عالقة.
في أمر تشكيل اللجنة، صرنا نعرف أنها ستضم ما بين 10 إلى 15 من الشخصيات المستقلة، مهنيةً في الغالب، محترفة ومحترمة، متوافقًا عليها فصائليًا، تصدر بمرسوم رئاسي، مرجعيتها الإدارية هي الحكومة في رام الله، فيما مرجعيتها القانونية، تتمثل في الأنظمة والقوانين المعمول بها في الأراضي الفلسطينية، وتتولى الهيئات الرقابية الفلسطينية، أمر الرقابة عليها.
لا دورَ سياسيًا للجنة، لا فيما يخص غزة، ولا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وليس في مشروع الاتفاق ما ينصُّ على دور أمني لها، ولا حتى بالحدود الشرطية.. أما مسألة المعابر، فنصت الورقة المصرية، على العودة للوضع الذي كان قائمًا قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ومرجعية اتفاق 2005 بشأن المعابر والحدود.
الورقة في آخر طبعاتها، شددت في أكثر من موقع، على وحدة أراضي الدولة
وتبعية اللجنة للنظام السياسي و”تكامل” دورها مع دور الحكومة، وخضوعها للمرجعيات الإدارية والقانونية والرقابية للحكومة، وصدورها بمرسوم رئاسي وإنهاء عملها بمرسوم مماثل.. وكانت عبارة “التوافق الوطني/ الفصائلي” كلمة مفتاحية في تشكيل اللجنة، وعند إنهاء خدمتها، بالانتخاب أو إثر التوصل لأي إطار بديل.
منتقدو فكرة اللجنة، كثر، بعضهم على خصومة مع حماس، كما هو حال السلطة والرئاسة بخاصة، وبعضهم الآخر، من أصدقاء حماس وأنصار المقاومة.
ومع أن انتقاد المقترح مشروع تمامًا، فإن الأمر الأكثر إثارة للاستهجان والاستغراب، هو أن تصدر أشد الانتقادات (اِقرأ الاتهامات) عن السلطة والرئاسة، لا سيما بعد مرور أزيد من عام، على ممارسة تعطيل وإجهاض كافة مبادرات المصالحة واستعادة الوحدة، التي أطلقتها ودعت إليها مئات الشخصيات والجماعات الفلسطينية، فضلًا عن مبادرات دول صديقة للفلسطينيين، من مثل الجزائر، والدوحة، وبكين، وموسكو.
كان بيد الرئيس الفلسطيني (ولا يزال)، أن يغلق بإحكام كل هذا الجدل (وبعضه مشبوه ومغرض) تحت عنوان “اليوم التالي”، لو أنه بادر منذ بداية الطوفان، إلى فتح أبواب منظمة التحرير للمشاركة والشراكة، من دون إقصاء و”فيتوهات” وشروط تعجيزية مسبقة، تخلى عنها بعض أصحابها “الغربيين”.
كان بمقدوره ألا يدير ظهره لنداءات عربية وصديقة لتشكيل حكومة وفاق وطني، حتى وإن لم تشارك فيها الفصائل مباشرة، مكتفية بدعمها من خارجها، كان بمقدوره أن يتخلى عن بعض جموح الهيمنة والاستفراد، والذي أدى إلى ما أدى إليه، من تكريس لانقسام قائم وممتد، وفتح أبواب النظام الفلسطيني، لشتى التدخلات الضارة والمبادرات المفخخة.
ادعاءات الحرص على وحدة غزة والضفة، ووحدة النظام الفلسطيني، لا تنسجم أبدًا مع إرث قائم على سدّ الأبواب في وجه جهود المصالحة واستعادة الوحدة، حتى لو لجأ أصحابها إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لتدبيج قرار رفض المقترح المصري، ومهره بخاتمها، فيما يعلم القاصي والداني، أن اللجوء للمنظمة لا يحدث إلا لاتخاذ أسوأ القرارات، ولغرض دفع المسؤولية “الشخصية” عنها
الجولة الأخيرة
ونعود إلى آخر جولة في القاهرة بهذا الصدد، حيث جرى تقديم إيضاحات حول المقترح، وظلت بعض جوانبه غامضة كما أشرنا، ففي الوقت الذي وافق فيه وفد حماس عليه، طلب وفد فتح العودة للرئيس عباس، واقترح المصريون فضّ هذه الجولة من الحوارات؛ لأنهم كانوا يعلمون، وربما وفد حماس كان يعلم كذلك، أن الرئيس عباس لن يقبل به، وهذا ما كان على أية حال، ولكن تحت غطاء اللجنة التنفيذية للممثل الشرعي الوحيد، الذي يُستدعي “غبّ الطلب” [عند الحاجة].
في تفسير موقف السلطة والرئاسة الرافض للمقترح، ثمة عدة تقديرات يجري تداولها، من بينها أن حكومة الدكتور محمد مصطفى ومن يقف وراءها، لن تكون لها اليد العليا في تسيير شؤون القرار والمال والأعمال، وأن اللجنة ستكون تحت أضواء المانحين وراداراتهم، وهذا أمر يضعف من مكانة الحكومة، ويفسح المجال لتدخلات خارجية.
وثمة مخاوف لدى السلطة، يجري تداولها همسًا، من تكرار تجربة ما بعد الانتفاضة الثانية، وربط عملية إعادة الإعمار بشرط تشكيل حكومة برئاسة محمود عباس، وتقويض صلاحيات ياسر عرفات. الخشية الآن أن تحلّ اللجنة محل الحكومة ورئيسها محل الرئيس عباس، كما حدث مع الراحل عرفات، في لعبة التهميش ذاتها.
ووفقًا لتقديرات أخرى، تتخوف السلطة من أن تنجح حماس في تحويل اللجنة إلى مظلة لإدامة وجودها في غزة، وخاصة إن استندت في عملها إلى بقايا الجهاز الحكومي الذي أنشأته الحركة في القطاع طيلة سبعة عشر عامًا من توليها زمام “سلطة الأمر الواقع” فيه، ما يمنح الحركة شرف الإغاثة وإعادة الإعمار وإن بصورة غير مباشرة، بعد أن منحتها حرب الأشهر الأربعة عشر، شرف الصمود والثبات والمقاومة.
أما لماذا قبلت حماس بالمقترح المصري في صيغته الأخيرة، فثمة من يقول إن الحركة سئمت (يئست) من انتظار جنوح الرئيس والسلطة وفتح لخيار المصالحة والتوافق الوطني، وإن القبول بفكرة اللجنة، قد يكون وسيلتها لمواجهة تعنت السلطة والرئاسة، لا سيما إن استشعرت أن قطار الإغاثة وإعادة الإعمار قد يفوتها.
وثمة من يقول، إن حماس أدارت معركة علاقات عامة ودبلوماسية، فهي كانت تعلم أن الطرف الفلسطيني الآخر، لن يقبل بالمشروع، وأن الكرة ستستقر في ملعبه، وأن حماس ستخرج أمام الوسيط المصري (ومن خلفه الأميركي) بأنها جزء من الحل، وليست جزءًا من المشكلة، وأمام الرأي العام الفلسطيني في غزة، الضاغط بشدة في سبيل وقف الحرب، وربما بأي ثمن، بأنها حركة مسؤولة، وقدمت كل ما بوسعها تقديمه، من أجل تسريع رفع المعاناة عن أهل غزة، وأن رام الله هي الملومة، إن كان لا بد من إلقاء اللائمة على أحد. فلا هم يريدون حكومة توافق، ولا هم بوارد القبول بترتيب انتقالي.
وبصرف النظر عن هذه التأويلات لموقف حماس، فإن الأمر الذي لا جدال فيه، أن الحركة تقبع تحت ضغط إنساني هائل، وتعيش يوميات أفظع كارثة إنسانية في العصر الحديث، ومصادر حماس لا تخفي أبدًا، أنها تخضع لضغوط من بيئتها الخاصة وبيئة حلفائها وبيئة أهل غزة، وأن اضطرارها للقبول بصيغة “الإسناد المجتمعي”، هو من باب “أبغض الحلال”، وليس من زاوية أفضل الحلول.
وثمة تقديرات مصرية – حمساوية مشتركة، بأن من الأفضل ملاقاة ترامب وإدارته بمقترح من هذا النوع، على انتظار ما سيحمله في جعبته من مفاجآت يرجح أنها ليست سارة أبدًا للفلسطينيين والعرب.
وبعيدًا عن السجالات ولعبة تقاذف الكرات والاتهامات الدائرة فلسطينيًا، يمكن القول إن (مقترح لجنة الإسناد المجتمعي)، قد وضِع في غرفة الإنعاش، إن لم يكن في ثلاجة الموتى، لكنه قد يعود للحياة من جديد، في حال أثمرت مناخات التفاؤل السائدة اتفاقًا لوقف إطلاق النار في غزة.. وعلى السلطة التي أظهرت غيرةً فائقة على وحدة الأرض والشعب والمشروع والمؤسسات، أن تبادر دون إبطاء، إلى فتح أبواب الشراكة والمشاركة، وبخلاف ذلك، لن يكون لكل هذه الادعاءات صدقية من أي نوع؟