يكشف السقوط الدرامي لنظام الرئيس السوري بشار الأسد عن حقيقة مهمة، هي أن السقوط لا يمكن أن يكون أبداً مفاجئاً، ربما تكون المفاجأة الوحيدة التي حدثت هي هرب الرئيس بشار الأسد من دون بيان بالتنحي ومن دون ترتيبات لنقل السلطات تؤمن سلامة المؤسسات الوطنية الكبرى وعلى رأسها الجيش السوري.
هذا يعني أن سقوط النظام السوري كان «سقوطاً سياسياً» وليس سقوطاً عسكرياً، إذ لم تدخل قوات المعارضة في صراع عسكري مع الجيش الذي أخلى مواقعه اختيارياً لقوات المعارضة، وهذا يعني التأكيد على حقيقتين ستحكمان مسارات التطورات داخل سوريا من الآن وحتى مارس/ آذار المقبل، موعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي جرى الإعلان عنها مع قيام الحكومة الانتقالية الجديدة عقب تسلمها السلطة سلمياً من الحكومة السابقة.
الحقيقة الأولى أن الشعب السوري هو المصدر الرئيسي لأي حكم. فقد كان للشعب السوري الدور الأهم في نزع الشرعية عن نظام بشار الأسد، وهذا ما أكدته مشاعر وتظاهرات السوريين بانتهاء نظام الأسد، ولم تكن هذه المشاعر أو التظاهرات تعبيراً عن ترحيب أو سعادة بمن أسقطوا بشار الأسد. أما الحقيقة الثانية، فهي أن الشعب السوري هو المعني بتحديد من سيحكم سوريا، وأي نظام سياسي يجب أن يقوم، وأي مستقبل ينتظر سوريا.
لكن تبقى القضية الصعبة هي كيف سيتمكن الشعب السوري من التعبير عن إرادته الحرة المستقلة، في ظل بوادر توحي بأن زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) أحمد الشرع، أو (أبو محمد الجولاني سابقاً) يسعى للترشح ألى منصب رئيس الجمهورية، ما يعني أنه يعمل من أجل فرض هيئة تحرير الشام تنظيماً حاكماً ل «سوريا الجديدة»، رغم أن هيئة تحرير الشام هي طرف ضمن تنظيمات متعددة تضمها المعارضة السورية التي لعبت الأدوار الأساسية في مواجهة نظام الأسد، ما يعني أن سوريا ربما تكون مقبلة على مرحلة جديدة من الصراع السياسي على الحكم من الآن وحتى انتهاء المرحلة الانتقالية.
المرحلة الانتقالية، بهذا المعنى، ستكون موضع تساؤلات كثيرة عند السوريين، منها: هل تنجح فصائل المعارضة المسلحة خاصة «الجيش السوري الحر» بأطيافه السياسية المختلفة، اليسارية والقومية والعلمانية، وهيئة تحرير الشام، بأطرافها الإسلامية متباينة الرؤى، في تشكيل حكومة تتمتع بالاستقرار والأمن والقبول الشعبي؟ وهل تتمكن من اختيار رئيس توافقي أم ستجدد انخراطها في صراع على السلطة؟ وأي نظام سياسي سوف يؤخذ به بعد انتهاء تلك الفترة الانتقالية؟ هل سيكون نظاماً إسلامياً أقرب إلى أدبيات تيار الإسلام السياسي بتدرجاته المتباينة أم سيكون نظاماً ديمقراطياً علمانياً، يتجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية، ويعطي الأولوية لمبدأ المواطنة المتساوية وترسيخ الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للسوريين؟
الوعي بكل هذه التساؤلات وانخراط كل الأطراف في جهود أمينة للإجابة عنها أضحى أمراً ضرورياً، خاصة في ظل تجدد الاشتباكات بين الجماعات المسلحة التابعة ل «الجيش الوطني السوري الحر» المدعوم من تركيا في الشمال و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي يهيمن عليها الكرد، في حين لا يزال الآلاف من مقاتلي تنظيم «داعش» في السجون في الشمال الشرقي الواقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا هرب هؤلاء المقاتلون، أو إذا عادت «الخلايا النائمة» إلى الظهور فسيكون مصدراً خطراً لإفساد تأسيس سوريا جديدة مستقرة وآمنة وديمقراطية.
البيان الصادر عن «قوى الداخل السوري» (أحزاب وطنية وقوى المجتمع المدني وشخصيات وطنية بارزة من أطياف سياسية خارج تصنيف القوى الإسلامية) كشف عن إدراك قوي للمخاطر التي تتهدد طموحات بناء «سوريا الجديدة» حرصاً على ألا يتحول هذا الحلم إلى كابوس أشبه بكابوس التبشير الأمريكي ب «العراق الجديد» عقب إسقاط حكم صدام حسين واحتلال العراق. فقد اجتمعت هذه القوى وناقشت كل تلك التحديات التي تواجه التجربة السورية الجديدة، وأصدرت بياناً شاملاً دان العدوان الإسرائيلي على سوريا واحتلال الجيش الإسرائيلي مناطق واسعة في الجنوب السوري بعد تدمير كامل القدرات العسكرية السورية، وطالب في ما يتعلق ب «الحل السياسي» بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 بمشاركة جميع قوى الداخل الوطنية السورية، والتأكيد على ضرورة ما ورد في الخطاب الذي جاء على لسان أحمد الشرع الذي أسمته ب «إدارة العمليات العسكرية» وأبرزها: وحدة الأراضي السورية، والمحافظة على مؤسسات الوطن، وتحريم التحريض الطائفي، وحرمة الدم السوري.
من هنا تأتي أهمية البيان الختامي الصادر عن اجتماع لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن الأحداث الجديدة في سوريا كأول موقف عربي مدروس ومسؤول من تلك الأحداث، حيث جاءت بنود هذا البيان متوافقة مع بيان «قوى الداخل السوري» من إعلان عن دعم عملية انتقالية سلمية سياسية سورية جامعة، وإنشاء بعثة أممية لدعم العملية الانتقالية، والتأكيد على أن المرحلة تستوجب حواراً وطنياً وتكاتف الشعب السوري بكل مكوناته.. ويبقى السؤال عن مدى جدية الالتزام العربي بدعم هذه المطالب.
نقلا عن الخليج