ثلاث ملاحظات على المشهد السوري

عمرو بدر

الجولاني في المسجد الأموي (رويترز)
في المشهد السوري القلِق ملاحظات تستحق أن تُروى.

سقط نظام بشار الأسد الديكتاتوري، وهرب رأس النظام إلى موسكو، وظل ضباب الخوف يحيط بالواقع السياسي في سوريا، والشائعات تسكن مساحات شاسعة لتغطي على الحقيقة في بعض الأحيان.

كان السقوط المفاجئ للنظام المستبد شيئًا لا يكاد يُصدَّق، ثم توالت الأحداث على نحو لاهث ومتلاحق لتخطف أنظار الجميع نحو هذا البلد العربي المهم
في الجدل الذي استمر طوال الأسبوع الماضي، تراوحت التحليلات بين الأمل والخوف، واستمرت القصص والمشاهد التي تأتي من الشوارع السورية باعثة على الحذر حينًا والأمنيات أحيانًا.

المخاوف من السلاح لها ما يبررها، والخوف من حكم استبدادي جديد يتشح بالدين أمر مفهوم وله أسبابه الوجيهة، لكن مع ذلك ظهر في المشهد ما كان غائبًا منذ سنوات طويلة، وتجلت قوى سياسية وأفكار جديدة تشير إلى أن الأوضاع تتطور ولكن ببطء مفهوم وله ما يبرره.

قوى مدنية في المشهد السوري

للمرة الأولى منذ سنوات، تتجلى قوى حزبية ومدنية وشخصيات سورية مستقلة تطرح الأفكار وتنشر رؤيتها وبرامجها، يحيل وجودها الصورة إلى درجة مهمة من درجات التنوع المهم والمطلوب.

في التعددية يكمن الخلاص من كل السيناريوهات التي يمكن أن تذهب بالبلد العربي العريق إلى أزمات كبرى لا سبيل لحلها.

البداية جاءت من حزب العمل الشيوعي السوري، ببيان يعلن فيه ارتياحه وترحيبه بسقوط النظام الديكتاتوري، ويرده إلى ما قال إنه “نضال الشعب السوري منذ السبعينيات”.

للمرة الأولى يظهر في المشهد السوري قوى سياسية مدنية ترى أن رحيل الأسد “يمثل نصف الطريق”، بينما النصف الآخر هو “بناء دولة ديمقراطية على كامل التراب السوري بما فيها الجولان المحتل”.

الحزب واصل حديثه في البيان مرحّبًا بتحرير المعتقلين من السجون، وداعيًا إلى وحدة كل أبناء الشعب السوري وقواه الوطنية، وتنظيم مؤتمر جامع لكل الأحزاب والطيف الوطني للاتفاق على رؤية واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية في سبيل الخلاص من “الديكتاتورية ذاتها” بعد أن تخلص الشعب من الديكتاتور.

المشهد اتسع أكثر ليشمل عددًا من الأحزاب المدنية الليبرالية واليسارية والقومية التي بات وجودها في الصورة مهمًّا.

ببيان أصدرته بعض الأحزاب والشخصيات المستقلة صار مشهد التنوع السياسي ملحوظًا أكثر، وأصبح التفاعل الواسع مع الأحداث في سوريا يضم جميع القوى التي كانت ممنوعة بقسوة من الحديث والممارسة السياسية طوال العصر الاستبدادي الساقط.

الأحزاب المدنية دعت في بيانها إلى “خطوات عملية وملموسة لإزالة المخاوف والهواجس للشعب”، بعد أن أدانت العدوان الإسرائيلي المجرم على الأراضي السورية.

بتعاون بين كل القوى الحية يكتمل مشهد الانتقال السوري إلى ما يريده الشعب، وتغدو سوريا على أول الطريق الصعب والطويل الذي يفضي إلى دولة موحدة وديمقراطية.

رابطة الصحفيين السوريين

من القوى السياسية إلى القوى النقابية تواصل الفعل السوري.

فربما هي المرة الأولى التي تظهر رابطة الصحفيين السوريين ببيان واضح وغير متردد، تبارك فيه إسقاط “النظام البائد” وانتهاء عقود من الاستبداد والقمع، وتحقيق خطوة جديدة نحو الحرية والكرامة.

الرابطة المهنية دعت في بيانها إلى حرية الصحافة، وقالت إن حرية التعبير هي حجر الزاوية في بناء سوريا الجديدة التي تسودها العدالة والشفافية واحترام حقوق الإنسان، مطالبة بسرعة الكشف عن الصحفيين المفقودين والمُخفَين قسرًا في زمن الأسد، ومحاكمة المتسببين في الجرائم التي طالتهم.

في مساحات التكامل بين القوى السياسية والنقابية ما يقود إلى مجتمع مدني سوري حر، يغدو فيه المجتمع أقوى من السلطة.

بمجتمع يتجاوز قوة السلطة يمكن الارتياح إلى أي تطور ديمقراطي، ففي كل البلدان الحرة لا يمكن أن تتجاوز السلطة قوة المجتمع بتنوعاته وقواه السياسية والاجتماعية ومنظماته وإعلامه.

إعلان

كلما اتسع المشهد العام ليضم كل القوى والأحزاب صار نجاح التجربة السورية ممكنًا، والعكس بالعكس، فالغياب السياسي هو نوع من الاستبداد الذي سقط في سوريا، ولا يتمنى أحد أن يعود ويطل إلى الواجهة مرة أخرى.

ربما تشهد الأيام المقبلة مزيدًا من الحضور لقوى سياسية وشخصيات عامة مستقلة لها من الثقل والدور ما يثري عملية الانتقال السياسي السوري، في بلد مهم وغني بمفكريه ومثقفيه وقواه الحية التي كان الضوء محجوبًا عنها طوال حكم الأسدين، الأب والابن.

خطاب المستقبل

بحديث “الفتح” الذي “لا ثأر فيه” بدأ أحمد الشرع (الجولاني) خطابه إلى السوريين قبل سقوط الأسد. بدا الرجل حريصًا على استخدام لغة سياسية تطمئن الخائفين في حواره مع شبكة سي إن إن.

لا ثأر ولا خصومة.. هكذا راح يصنع بكلمات سياسية حالة من الارتياح، اختار خطابًا سلسًا ومرنًا وهادئًا ليطمئن جماهير سورية وعربية تتابع ما يحدث في سوريا بقلق وترقب، ودول جوار تنتابها الهواجس والظنون.

لكن الخطاب السياسي الذي تردد في سوريا في الفترة الأخيرة كان مغرقًا بدرجة غير مفهومة في مسائل وأمور فقهية ليست هي الأولوية في مشهد سوري معقد، وعملية انتقال سياسية صعبة، وقوى خارجية مترصدة تفرض نفوذها على الداخل، ومجتمع منقسم يعاني نبرة طائفية مخيفة.

في حوار للشرع مع أهالي سوريا بعد سقوط الأسد، بدا الرجل أيضًا يحاول أن يطمئن الناس أنه لا اتجاه لفرض جماعات “للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وأن شرطة الآداب ستتولى الأمور الأخلاقية طبقًا للقانون.

في ترتيب الأولويات ما يضمن انتقالًا سياسيًّا سلسًا وهادئًا

والأولوية بكل تأكيد الآن هي لنجاح الفترة الانتقالية السورية، والمساعدة في وجود مجتمع حر، ووضع قواعد تضمن ديمقراطية الحياة السياسية، وإعادة الأمن إلى الشارع السوري، والنهوض بالاقتصاد والخدمات المنهارة، والاستعداد لانتخابات ديمقراطية تفضي إلى استقرار سياسي ووحدة للدولة من التمزق والتقسيم، ووضع وثيقة دستورية تضمن التداول السلمي للسلطة ومدنية الدولة واحترام حقوق الإنسان.

من اختيار اللغة السياسية المناسبة التي تبعث الأمل في المستقبل، وتحيي بداخل الناس أحلام الحرية والكرامة والاستقرار، يمكن الحكم على نجاح التجربة التي تحاصرها مصاعب جمة ومخيفة.

وفي طريق التنافس الحر للوصول إلى الدولة الديمقراطية، على الجميع أن يحضر في مشهد سوري، نتمنى أن يفضي في نهاية المشوار الطويل إلى الحرية.

نقلا عن الجزبرة مباشر

By عمرو بدر

كاتب وصحفي مصري عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين سابقاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *