محمد زكي

في لحظة فارقة من تاريخ الأمة الإسلامية، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهدت سقيفة بني ساعدة أول نقاش سياسي حول من يحق له قيادة الأمة. هذا الاجتماع، الذي كان بداية لتأسيس الفكر السياسي عند المسلمين، أرسى أسسًا للصراعات التي ستظل تلقي بظلالها على الأمة لقرون طويلة.

انقسامات الفتنة الكبرى

مع الفتنة الكبرى، التي قسمت المسلمين إلى سنة وشيعة وخوارج، برزت رؤى متباينة حول أحقية الحكم:

السنة: استندوا إلى الحديث المنسوب إلى النبي “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان”، معتبرين أن القيادة يجب أن تبقى في قريش مهبط الرسالة ولها السبق والقرابة.

الشيعة: ركزوا على آل البيت، معتبرين أن الحكم حق لعلي بن أبي طالب وأبنائه من السيدة فاطمة. فهم أبناء حامل الرسالة وأقرب الناس إليه وأسبقهم إلى دينه

الخوارج: تبنوا رؤية أكثر انفتاحًا، حيث رأوا أن الحكم يجب أن يكون لمن يصلح من المسلمين دون تحديد نسب أو قبيلة.

هذه الانقسامات أدت إلى معارك دامية، أبرزها موقعتا الجمل وصفين، راح ضحيتها الآلاف، وأثرت بعمق على بنية الفكر السياسي الناشئ وصراعاته.

انعكاسات على الحياة الفقهية

ألقى الصراع السياسي بظلاله على الحجج والمبررات لكل فريق وأدي ذلك إلى اختلاق الأدلة والبراهين الدينية من خلال تأليف الأحاديث وإعادة تفسير وفهم بعض آيات القرآن، واجتهد كل طرف في دعم رؤيته حتى تطورت مدارس فقهية لكل فريق. ومن داخل المذهب السياسي الواحد تعددت الآراء والمذاهب ونشأت الخلافات والصراعات الفقهية التي أثرت على الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، شهدت المساجد السنية انقسامات داخلية، حيث أقيمت في المسجد الواحد أربع جماعات للصلاة: للحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، حيث رفض أتباع كل مذهب الصلاة خلف أتباع المذاهب الأخرى. هذه القطيعة امتدت إلى مجالات أخرى، مثل المعاملات التجارية والزواج.

الدولة الأموية: سياسة السب العلني

مع صعود بني أمية، اتخذ الصراع طابعًا رسميًا، حيث فرض الأمويون سب علي بن أبي طالب وأبنائه في خطب الجمعة. ولم يتوقف هذا السب إلا في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي أمر بوقفه واستبدله بالآية الكريمة: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”.


وقابل الشيعة سب آل البيت بسب أبي بكر وعمر لما لهما من منزلة في نفوس أهل السنة وأساءوا للسيدة عائشة لوقوفها ضد علي في موقعة الجمل ليتلخص الخلاف السياسي والفقهي في تبادل السباب بين الطرفين دون الالتفات إلى حقيقة الخلافات السياسية أو وجاهة الرؤية الفقهية من كل طرف وأصبحت النظرة إلى الآخر مشوهة ومجتزأة وسطحية

نهاية المذهب السياسي السني

مع سقوط الدولة العباسية، آخر دولة قرشية، وصعود الدولة العثمانية، انتهى عمليًا المذهب السياسي السني. فالخلافة العثمانية، رغم تبنيها للفقه السني، لم تلتزم بالنظرية السياسية السنية التي اشترطت أن تكون الخلافة في قريش. وهكذا، تلاشى المذهب السياسي السني تدريجيًا، بينما بقيت آثاره الفقهية متمثلة في المذاهب الأربعة.

الشيعة والخوارج: استمرار وتأثير

على النقيض، ظل المذهب الشيعي قائمًا ومؤثرًا حتى يومنا هذا، مستندًا إلى رؤيته الفقهية والسياسية. أما مذهب الخوارج، فقد ساد عمليًا في معظم بلاد المسلمين رغم اندثار الخوارج كجماعة سياسية، حيث تبنت كثير من الدول في العصر الحديث فكرة “الحكم لمن يصلح” دون التقيد بنسب أو قبيلة.

عودة الخلافة المزعومة

تطرح جماعات الإسلام السياسي “الخلافة” كمشروع سياسي لبعث الأمة واستنهاضها واستعادة مكانتها المفقودة لكن على أي مذهب سياسي ستكون هذه الخلافة فالمذهب السني انتهى نظريا وعمليا منذ تولي آل عثمان الخلافة حتى مطلع القرن العشرين فهل ستكون خلافة على مذهب الخوارج ” لمن يصلح “؟ وهل سيتم اختيار الخليفة بالتصويت المباشر من الشعب بالطرق الحديثة أم من أهل الحل والعقد ثم البيعة من العامة؟

إن قراءة هذا التاريخ المعقد تبرز ضرورة فهم جذور الخلافات السياسية والفقهية في الإسلام. فالانقسامات التي بدأت كصراعات سياسية سرعان ما تحولت إلى منظومات فقهية متباينة أثرت على حياة المسلمين لعقود.
انتهى الصراع السياسي القديم بهزيمة الرؤية السنية للحكم وبقى الصراع الفقهي ليشعل الفتنة مدعوما بالصراع السياسي الحديث بمنطلقاته الجديدة وانتماءاته الحديثة للدولة القطرية ومصالحها والسلطة المحلية ومناطق النفوذ والسيطرة ومعادلات الصلاحية والبقاء.
واليوم، يبقى السؤال: هل يمكن تجاوز هذه الانقسامات لبناء رؤية موحدة تعيد للأمة قوتها ووحدتها؟ أم ستبقى الأمة رهن بإرادة الجماعات السياسية المشعلة للفتنة ومن خلفها الدعم الصهيو أمريكي الموجه والمحفز والممول للصراع المذهبي الموهوم؟

من محمد زكى

سياسي وصحفي بالكرامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *