محمد سعد إمام
تشير هذه المقولة إلى ميل الشخص إلى تفسير الأمور أو تحليل القضايا بما يتوافق مع أدواته أو وجهة نظره المسبقة، دون النظر إلى الصورة الكاملة أو الاحتمالات الأخرى.
ويمكن ربط ذلك بمفهوم “التحيز التأكيدي” (Confirmation Bias)، وهو ميل الناس إلى البحث عن المعلومات أو تفسيرها بطريقة تؤكد معتقداتهم أو وجهات نظرهم المسبقة.
يمكننا تطبيق هذه المقولة وهذا المفهوم على كثيرين عملوا جاهدين منذ الإعلان عن اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة، على استخدام كل أدواتهم لإثبات أن المقاومة قد تمت هزيمتها وأن طوفان الأقصى كان وبالا على القضية الفلسطينية وأن السنوار ورط غزة في مغامرة بائسة، ثم يمتد ذلك لتسفيه مفاهيم كالجهاد والاستشهاد باعتبارها مفاهيم تراثية متخلفة تتصادم مع العقلانية والحداثة والتنوير، للوصول في المحطة النهائية أنه من العبث الاصطفاف مع المقاومة كون الفصائل الأبرز فيها تنتمي لتيار الإسلام السياسي.
تاريخيا استخدم الكثير من الاسلاميين ذات المنطق التحليلي مع الزعيم جمال عبد الناصر، فعملوا على مدار سنين على الحط من قرار تأميم قناة السويس واعتبروه عنترية بلا جدوى، دفعت مصر ثمنها في العدوان الثلاثي (والذي يعتبرون مصر خرجت منه مهزومة عكس كل التقديرات السياسية والعسكرية)، وينطلقوا من تحليلهم للنتيجة التي يتبنوها ابتداء وهي أن عبد الناصر قاد مصر للهزيمة وتسبب في كل مشاكلها حتى بعد رحيله عن دنيانا بأكثر من خمسين عام.
مشكلة الفريقين أنهم عملوا بوعي أو بدون على ترسيخ ثقافة روح الهزيمة، وأننا أمام عدو لا يقهر، وأن كل انجازات أمتنا محض تخاريف، وأن الحقيقة الوحيدة هي أن عدونا باق وأننا أضعف من أن نواجهه.
في طوفان الأقصى بالطبع وقعت المقاومة وقياداتها في أخطاء تكتيكية، ساهمت مع الخذلان العربي الرسمي والدعم الغربي والأمريكي غير المحدود في استشهاد قرابة ال ٥٠ ألف شهيد، وخسارة قادة بحجم السنوار ونصر الله ناهيك عن عشرات الآلاف من المصابين والمفقودين والمباني المهدمة، ولكن كل هذا لا ينفي ضرورة المعركة لوقف قطار التطبيع العربي وإعادة القضية الفلسطينية للواجهة، وعن قدرة المقاومة وحاضنتها الشعبية على دحض اهداف العدو بتهجير سكان قطاع غزة وجنوب لبنان ونزع سلاح المقاومة، ثم تفعيل مبدأ وحدة ساحات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق (مع اعترافنا بوجود ملاحظات على التنسيق بين الجبهات المختلفة)، ناهيك عن كون المقاومة حتمية تاريخية طالما كان هناك إحتلال، وتظل هي الحل الأوحد والأصوب رغم أية آلام أو تكاليف؛ فلولا ثورتي القاهرة الاولى والثانية ما خرج الاحتلال الفرنسي من مصر، ولولا ثورة الجزائر ما خرجت فرنسا، ولا المقاومة في فيتنام ما خرج الأمريكي، ولولا أطفال الحجارة وصواريخ المقاومة التي طالما وصفت بالعبثية ما قصفت تل أبيب ولا كان طوفان الأقصى ومعركة السابع من أكتوبر.
ثم أن حصر المقاومة الفلسطينية في تيار الإسلام السياسي وحده يناقض الواقع، فمع التسليم بالدور البطولي والاسطوري لكتائب القسام وسرايا القدس والدور المحوري الذي لعباه على مدار أكثر من ١٥ شهر، إلا أنه لا يمكننا أن ننكر أن عضوية هذه التنظيمات قد تجاوزت فكرها الأيديولوجي التقليدي لتتحول لحركات تحرر نجحت في أن تضم بين صفوفها شابا كالشهيد أبو شجاع الذي يبدو من مظهره وطريقته أنه ربما لا يتبنى الأساس الفكري الذي أنطلقت منه الجهاد الإسلامي في فلسطين، ومع ذلك نجح في أن يكون قادة مقاتلي النخبة في سرايا القدس، وهناك نموذج الشهيد يحيى السنوار الذي نجح في انتشال حركة ح.م.ا.س من كبوة التعامل كفصيل أخواني في الأعوام (٢٠١١-٢٠١٤)، وطور من الأداء العسكري والسياسي لكتائب القسام ومن تحالفاتها الإقليمية للوصول للحظة السابع من أكتوبر، ثم الأهم من ذلك في حاضنة المقاومة الشعبية التي لا يمكن إغفال دورها سواء في الصمود الأسطوري الذي أظهرته طوال فترة الحرب أو في منعها لحدوث أي اختراق لصفوف المقاومة فظلت أماكن الانفاق والأسرى والمقاومين سرا طيلة أشهر حرب رغم استحالة ذلك لو لم يكن التعاطي مع فصائل المقاومة كحركات تحرر وطني لا جماعات أيديولوجية منغلقة، ثم كان مشهد اصطفاف أهالي غزة حول مقاتلي القسام لحظة تسليم الاسيرات (الإسرائيليات) والتلويح بعلامات النصر والهتاف باسم القائد الضيف.
أخيرا يبقى طوفان الأقصى صفحة مضيئة في صفحات صراعنا الوجودي مع العدو الصهيوني، ويبقى باب المراجعة والتقييم مفتوحا طالما كان المنطلق استمرار المقاومة، ويبقى حل القضية في البندقية لا غيرها.
سلام على أهلنا المناضلين والمجاهدين في فلسطين واليمن ولبنان والعراق، سلام على أرواح السنوار ونصر الله والعاروري وهنية وصفي الدين وشكر الله، سلام على الشهداء والجرحى، وسيبقى الصراع صراع وجود لا حدود، وسيبقى تحريرها كلها من نهرها لبحرها ممكنا وقد بدأ.