عهد إمام

كأنها قيامةُ الأرض بعد موتها، وكأنَّ الروحَ التي نُزعت قسرًا قد عادت أخيرًا إلى جسدها، نابضةً بالحياة، شاهدةً على انتصار الحق فوق أنقاض الجور والطغيان. على تراب فلسطين، وحدها الأقدام التي رفضت الرحيل تعرف طريقها، ووحدها القلوب التي لم تيأس، تنبض اليوم بنشوة الرجوع.

إنه المشهد الذي يشبه النهاية السعيدة في الأفلام، لكنه ليس خيالًا سينمائيًا، بل حقيقة سيسجلها التاريخ بحروف من نور. لحظةُ العودة، لقاءُ الأحبة بعد فراق، احتضانُ الأرض التي استعصت على الغياب، والوقوفُ على أطلال البيوت، لا حسرةً على الدمار، بل فخرًا بأنها صمدت كما صمد أهلها. بعد عامٍ وأكثر من النزوح القسري، من شتاتٍ فرضته آلة الحرب، من ليالٍ ثقيلة مُثقلة بالفقد، من آلامٍ لا تسعها القلوب، ها هم أهل غزة يعودون إلى شمالها، إلى مدنهم التي لم تغادر أرواحهم يومًا، ولو اقتُلِعت من تحت أقدامهم.

تدفقت الجموع عبر شارع الرشيد، زحفوا عبر صلاح الدين، بعضهم سيرًا على الأقدام، وبعضهم بمركباتٍ لا تحمل سوى بقايا من متاعهم، لكنهم جميعًا كانوا يحملون كنزًا لا يُقدَّر بثمن: إرادتهم التي لم تُهزم، وأملهم الذي لم يُطفأ، وحبهم للأرض الذي لم يعرف المساومة. لقد ظن المحتل أنهم سيرحلون إلى غير رجعة، لكنهم عادوا، كما يعود الموج إلى البحر، كما تعود الشمس بعد العاصفة.

ورغم الخراب الذي حفر أخاديده في وجه المدينة، ورغم الجدران التي هوت، والنوافذ التي تهشمت، والشوارع التي اتشحت بالغبار، ظلّت غزة على حالها، صامدةً كشجرة زيتون ضاربةٍ في عمق التاريخ. جراحها لم تقتلها، بل جعلتها أشد بأسًا، وصوتها لم يخفت، بل صار زئيرًا في وجه المحتل.

وترددت التكبيرات في الأفق، علت صيحات الفرح، تعانقت القلوب قبل الأجساد، وغمرت العيون دموع الانتصار. كان العيد هذا العام سابقًا لأوانه، حلّ في وقتٍ لم يكن موعده، لكنه جاء ليؤكد أن الفرح قد يُولد من قلب المعاناة، وأن الأرض تعرف أصحابها، تفتح لهم ذراعيها كلما حاول الغزاة اقتلاعهم منها.

هذا ليس مجرد يومٍ آخر في تقويم الزمن، بل لحظةٌ تُكتب بحروفٍ من مجد، تُخبر العالم أن شعبًا قرر البقاء، قد انتصر بالفعل، وأن من ظنوا أن التهجير قدرٌ محتوم، كانوا واهمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *