هل تكفي تكنولوجيا السلاح وحدها لحسم الحرب؟

يمكن القول إنّ الشهور العشر الأولى للعملية العسكرية الإسرائيلية التي بدأتها في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ردًا على عملية “طوفان الأقصى”، اتسمت بنمط واحد ذي رأسين.

الأول؛ “الفشل”.. فشل إسرائيل في تحقيق أي هدف من أهدافها الثلاثة في قطاع غزّة “إعادة المخطوفين، سحق “حماس” عسكريًا، وانهائها كسلطة إدارة في القطاع”، وفشلها في ردع “حزب الله” عن إسناد غزّة، وفشلها مع أمريكا والناتو عن منع الفصائل العراقية والسورية من شن هجمات على دولة الاحتلال وحتى على قواعد أمريكية.. وأخيرًا فشل هذا الثلاثي الذي يمثل أكبر قوة عسكرية في العالم في وقف هجمات الحوثيين على السفن وتعطيل الملاحة في البحر الأحمر.

الثاني؛ “الخضوع”: خضوع إسرائيل لنمط حرب الاستنزاف الذي فرضته المقاومة، فلم تستطع كسر هذا النمط عندما عجزت عن تحقيق نصر عسكري حاسم، ناهيك عن أن يكون نصرًا خاطفًا. وظلت تستنزف في الأسلحة والذخيرة والجنود والاقتصاد على جبهتي الجنوب والشمال.

مرة واحدة في شهري أغسطس/أب وسبتمبر/أيلول ٢٠٢٤ بدأت إسرائيل في كسر هذا النمط بعد تأكد اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر، ثم نجاحها في تفجير أجهزة النداء ونظام اتصالات “حزب الله”، ثم اغتيال زعيمه السيد حسن نصر الله، وشن هجمات جوية مركزة على منصات صواريخه.

سكرة ونشوة الانتصارات المتتالية دفعت إسرائيل للانتقال من النقيض إلى النقيض وإعلان انتصار متسرع وصل برئيس وزرائها إلى ادعاء أنه هزم “حماس” و”حزب الله” ويتوجه لهزيمة إيران وتغيير نظامها السياسي وسيقوم بتغيير خريطة الشرق الأوسط بالقوة.

يناقش تقدير الموقف هذا أثر عاملين مركزيين على تحديد مسار الصراع:

العامل الأول؛ ما هو المتغيّر الاستراتيجي الذي سمح لإسرائيل بتحقيق هذا الانقلاب النسبي في مسار الحرب بعد عشر شهور من الإخفاق الاستراتيجي؟.. والعامل الثاني؛ ما مدى دقة ادعاء نتنياهو أنّ إسرائيل ربحت الحرب وهزمت أعداءها أو تكاد؟.

لم تكتفِ أمريكا بالدفع بمتغيّر التفوق التكنولوجي على الأسلحة الهجومية بل شرعت في تقديم أسلحة دفاعية 

المتغيّر الاستراتيجي هو المتغيّر التكنولوجي.. قد يقول قائل وهو محق إنه ومنذ اليوم الأول للحرب منحت أمريكا تفوقًا تكنولوجيًا نوعيًا في السلاح والاستخبارات لإسرائيل على محور المقاومة بأكمله، لكن واشنطن في العطاء التكنولوجي التسليحي مارست تقيّدًا نسبيًا في العشرة شهور الأولى في شيئين تحت وطأة الإدانة الدولية التي تعرضت لها بسبب جرائم الإبادة التي تمارسها حليفتها، وغضب جيلها الشاب وحركاتها الاجتماعية المنظمة من تلك الممارسات. التقيّد الأول هو تقييد نسبي لاستخدام إسرائيل ذخائر وقنابل وصواريخ أمدّتها بها بالفعل ولكن كان استخدامها ليزيد حجم الخسائر بين المدنيين. الشيء الثاني وهو الأهم أنها امتنعت عن تسليم، أو أبطأت تسليم، أسلحة أشد فتكًا وأكثر حسمًا في المعارك من تلك التي قيّدت استخدامها.

لكن واشنطن أدركت مع اقتراب الذكرى الأولى لـ”طوفان الأقصى”، أنها لا بد من أن تزيل من أمام نتنياهو كل المكابح في التصرف وكأنه الحاكم الأعلى للشرق الأوسط، ودفعت إليه بهذا المتغيّر التكنولوجي شديد التأثير المتمثل في منح إسرائيل أسلحة وقنابل جديدة.

أخطر هذه الأسلحة، تلك الخارقة للتحصينات والأنفاق لعمق ٧٠ مترًا تقريبًا التي تمكّن الوصول لأي قائد أو بنية تحتية عسكرية تحت الأرض. وفي هذين الشهرين زادت واشنطن أيضًا من إمدادات القنابل الذكية شديدة الدقة خارقة الحصون.

لم تكتفِ أمريكا بالدفع بمتغيّر التفوق التكنولوجي على الأسلحة الهجومية بل شرعت في تقديم أسلحة دفاعية لم تمنحها من قبل إلا بشكل محدود وهي منظومة “ثاد” للدفاع الجوي وإرسال قوات أمريكية لتشغيلها لدعم قدرة إسرائيل على التصدي لصواريخ إيران.

نعود للعامل الثاني، هل هذا المتغيّر التكنولوجي الأمريكي هو متغيّر حاسم يحكم حكمًا مبرمًا بأنّ إسرائيل ستكسب حتما الحرب وتغيّر في خريطة المنطقة كيفما تشاء؟:

الإجابة يلخّصها المثل المعروف “راحت السكرة وجاءت الفكرة”، فالثمالة التي أسكرت إسرائيل بين ١٧ و٢٧ سبتمبر/أيلول الماضي الذي شهدت سلسلة الانتصارات الجزئية التي حققتها إسرائيل، ووصلت إلى حد ادعاء نتنياهو أنّ إسرائيل استعادت قوة الردع وإنها عادت صاحبة اليد الطولى وهدّد بضرب أي مكان في الشرق الأوسط سرعان ما أفاق الجميع منها.

فما حدث هو أنّ الانتصارات التقنية الإسرائيلية المؤقتة التي كان هدفها هو ردع إيران ومحور المقاومة عن الرد عليها أخفقت تمامًا في تحقيق هدفها، فالإيرانيون قرروا أخيرًا الرد في الأول من الشهر الجاري، وكان الهجوم باعتراف المصادر العسكرية المستقلة هجومًا ناجحًا فشلت إسرائيل في التصدي لجزء مهم منه.

“حزب الله” أعاد لم شتات نفسه واسترجع بدرجة معقولة نظام القيادة والسيطرة وسقطت فرضية أنه “نمر من ورق” فأغرق إسرائيل بصواريخ ومسيّرات لم يستخدمها من قبل، حققت واحدة منها في ١٤ أكتوبر/تشرين الأول أكبر نجاح عسكري له على الإطلاق منذ بدء “طوفان الأقصى” باستهدافه مقر اللواء جولاني في “بنيامينا”.

يعترف قسم وازن من العسكريين في إسرائيل بأنّ التفوق التكنولوجي الذي يمنحه لهم السلاح الأمريكي ما زال عاجزا عن ردع إيران و”حزب الله” و”حماس” والحوثيين عن الرد دفاعًا وهجومًا. أي النجاح في مواصلة حرب الاستنزاف وكسب نقطة وخسارة أخرى ومنع إسرائيل من تحويلها لحرب حاسمة والفوز بالضربة القاضية.

من لا يملك استراتيجية قد يحقق انتصارات تكتيكية في معركة لكنه لا يحقق انتصارات استراتيجية في الحرب

نشوة النصر في إسرائيل بعد الاغتيالات الناجحة لقادة المقاومة وتفجير أجهزة الاتصال وتفوّق سلاح الجو الإسرائيلي في سموات لبنان وسوريا تم استبداله في وقت قياسي بمآتم العزاء وجرى الانتقال في المجتمع الإسرائيلي من حالة نفسية إلى نقيضها. ولا يعود ذلك فحسب لوصول الصواريخ مؤخرًا إلى تل أبيب وحجز ٢ مليون إسرائيلي في الملاجئ، ولكن أيضًا لأنّ التفوق التكنولوجي والسيطرة على الجو ليست كافية لكسب الحرب.

ويصبح أحد معايير الحكم على ما إذا كنت إسرائيل انتصرت في الحرب كلها أم فقط انتصرت في جولة من جولاتها هو المعركة البرية، هنا تقف الحرب عادة مع أصحاب الأرض الذين يعرفونها مثل كف أيديهم، وهنا تقف الخبرة التاريخية أيضًا لصالح المقاومة اللبنانية.

مكّنها التفوق العسكري الإضافي من كسب جولات، لكن إسرائيل لن تكسب الحرب لأنها لا تملك استراتيجية سياسية للخروج من لبنان ولا من غزّة، ومن لا يملك استراتيجية قد يحقق انتصارات تكتيكية في معركة، لكنه لا يحقق انتصارات استراتيجية في الحرب.

نقلا عن عروبة 22

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *