مقال عبد الله السناوي .. رفقة القضية والسلاح ( التجربة الجزائرية )

“دم الثوار تعرفه فرنسا.. ونعرف أنه نور وحق، فصحت نحن مختلفون دارا.. ولكن كلنا في الهم شرق”. لم يدر بخلد أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو ينشد تلك الأبيات الملهمة منتصف عشرينيات القرن الماضي تضامنًا مع دمشق الجريحة جراء قصف القوات الفرنسية الوحشي لبيوتها وشوارعها، أنّ الأبيات نفسها سوف يقدّر لها في الخمسينيات أن تلهم الثورة الجزائرية، التي أعلنت عن نفسها مطلع نوفمبر (١٩٥٤).

استبقت تلك القصيدة، التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب، أول خطاب لأحمد بن بلة عبر أثير “صوت العرب” قبل شهور قليلة من الرصاصة الأولى.

بدت نهاية الخطاب عميقة وملهمة: “كان الفرنسيون يقولون في أعماقهم دون صوت أيام بطش الاحتلال النازي، فرنسا للفرنسيين.. فليردد كل الجزائريين، ولو بصوت أخرس صباح مساء، كلما رأوا فرنسيًا جنديًا أو مستوطنًا، الجزائر للجزائريين”.

بتقادم السنين قد تبهت في الذاكرة العامة المعاني الكبرى التي قاتلنا من أجلها ذات يوم

في حوارات القاهرة أبلغ بن بلة السلطات المصرية أنّ الرصاصة الأولى سوف تطلق في الساعة الواحدة من صباح ٣٠ أكتوبر ١٩٥٤.

بدأت “صوت العرب” استعدادها لهذا اليوم التاريخي بتكتم بالغ طلبه وألح عليه جمال عبدالناصر، على ما جاء في مذكرات خطية لمؤسسها أحمد سعيد لم يتسن أن تُنشر حتى الآن.

كان سر الأسرار جميعها نص بيان مكتوب باللغتين العربية والفرنسية لإذاعتهما فور الحدث الكبير.

كانت توجيهات عبدالناصر إلى فتحي الديب، الذى كان يتولى من موقعه في رئاسة الجمهورية متابعة الملف الجزائري بأدق تفاصيله: “عندما يثبت تنظيم الكفاح المسلح ومن يومه الأول قدرته على العمل الثوري الشامل فإنّ مصر سوف تلقي بثقلها كاملًا عارفة بمسؤوليتها ومتقبلة لتضحياتها”. لكنه بدا متحفظًا على الحماس الزائد، الذي خطط لنحو ثمانين عملية في اليوم الأول: “يكفيني ١٥ أو ١٦ عملية بامتداد الجزائر وأن تكون ذات دوي في العاصمة حتى تلفت أسماع العالم”.

جاء صباح اليوم الموعود وحل نصف النهار دون أن تكون هناك أي أخبار من الجزائر.

جرت اتصالات ومحادثات وتساؤلات: ما الذي حدث؟

كان ذلك مربكًا ومقلقًا في الوقت نفسه.

القلق طال عبدالناصر، الذي كان يراهن على ثورة الجزائر في تغيير معادلات المنطقة. خامره شيء من الشك في جدية الاستعداد، أو ربما أنّ التفاؤل كان أكثر من اللازم.

“نحن مجبرون”ـ كانت تلك أول إشارة تصل من بن بلة مكتوبة بالفرنسية.

لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التي شملت أنحاء واسعة من الجزائر، إلى الأول من نوفمبر.

“قال لي فتحي الديب أخوك الكبير قلق، وبالغ القلق، وسوف اتصل به حالًا لأطمئنه أنّ عملية أخته الحاجة اليوم بإذن الله” – على ما روى أحمد سعيد.

في ذلك اليوم من عام ١٩٥٤، قبل سبعين سنة بالضبط، بدأت تتوالى الأخبار من وكالة الأنباء الفرنسية عن “محاولات تخريب، تقدّر خسائرها بآلاف الفرنكات”.

عندما علم عبدالناصر أنّ دوي الانفجارات أرعب قوات الاحتلال الفرنسي تأكد أنّ الجزائر قد استعادت استقلالها وأكدت هويتها العربية، وأنّ الباقي تفاصيل.

في معركة الجزائر تأكدت رفقة القضية والسلاح والمصير.

تابعت القاهرة أدوارها من الرصاصة الأولى في نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر في يوليو (١٩٦٢) حاضرة في قلب التخطيط السياسي والإعلامي والعسكري شريكًا كاملًا في المعركة.

كان لشحنات السلاح المصرية، التي هُرّبت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية، وتدريب المقاتلين عليها، دور محوري في حسم حرب التحرير.

“صوت العرب من القاهرة، أيها الأخوة في كل مكان، نزف إليكم بدء ثورة تحرير واستقلال الجزائر، إليكم بيان جبهة التحرير الوطني.. اللجنة الثورية للوحدة والعمل

وتم توزيعه اليوم في جميع أنحاء التراب الجزائري”.

هكذا كانت الصورة في القاهرة في ذلك اليوم الاستثنائي من التاريخ العربي الحديث.

بتقادم السنين قد تبهت في الذاكرة العامة المعاني الكبرى التي قاتلنا من أجلها ذات يوم، كأنّ أجيالًا كاملة لم تحلم باستقلال الجزائر، وعروبة الجزائر.

في معركة التحرير، استشهد مليون ونصف المليون، كان ذلك ملهمًا بذاته وداعيًا للتساؤل عما يمكن أن يفعله أي عربي من أجل الجزائر.

في ٥ يوليو ١٩٦٢، نالت الجزائر استقلالها بدماء شهدائها بعد ١٣٠ سنة من الاحتلال الفرنسي، الذي مارس بحق شعبها أبشع الجرائم والمجازر.

“الحمد لله الذي أعطانا هذه الفرصة لنرى الأماني وقد تحققت.. الحمد الله فقد كنا نحلم بالجزائر العربية وقد رأينا اليوم الجزائر العربية”. بتلك الكلمات ابتدأ عبدالناصر خطابًا مقتضبًا ألقاه في العاصمة الجزائرية يوم ٤ مايو ١٩٦٣.

قال بالنص: “جمال عبدالناصر لم يفعل أي شيء لشعب الجزائر”.

لم يكن ذلك صحيحا على أي وجه، لكنه خاطب الكبرياء الجزائري. كانت الجزائر تعرف الحقيقة وتقدرها، ولم تكن في حاجة إلى من يذكرها.

لا تتحرر الأوطان بغير أثمان ودماء هذا هو درس الثورة الجزائرية

خرج ملايين الجزائريين لاستقباله بصورة تضاهي مشاهد دمشق عند إعلان الوحدة مع مصر.

في خطابه المقتضب أشار إلى المعنى القومي الكبير لاستقلال الجزائر، وركز أغلبه على القضية الفلسطينية.

إنها القضية المركزية أمس واليوم وغدًا.

إثر نكسة ١٩٦٧ نهضت الجزائر للوقوف بجانب مصر.

ذهب الرئيس الجزائري هواري بومدين إلى موسكو، وتفاوض على شحنات أسلحة عاجلة، عرض دفع ثمنها فورًا لكن ليونيد بربجينف الرجل القوي في الكرملين كان له تقدير آخر، أنّ هناك التزامات على الاتحاد السوفييتي تجاه مصر.

ثم قاتل لواء جزائري مع الجيش المصري في حرب أكتوبر ١٩٧٣. في تلك الحرب تأكدت مرة أخرى رفقة القضية والسلاح.

لا تكتسب الأدوار بالادعاء.. هذا هو درس عبدالناصر.

ولا تتحرر الأوطان بغير أثمان ودماء.. هذا هو درس الثورة الجزائرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *