كان الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ في مرحلة ما قبل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، أحد الذين وقّعوا ميثاق جامعة الدول العربية عن مصر في ٢٢ مارس ١٩٤٥. ولأن هذه هي وضعيته بالنسبة للميثاق ونشأة الجامعة عمومًا، فإنه تناول تفاصيل النشأة في مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء عن دار المعارف في القاهرة تحت هذا العنوان: مذكرات في السياسة المصرية.
عندما يتعرّض للمفاوضات التي سبقت وضع الصيغة النهائية للميثاق، فإنه يشير إلى أنها واجهت صعوبات شديدة، وأنّ الصعوبات لم تكن في الصياغة في حد ذاتها طبعًا، ولا كانت في ترتيب مواد الميثاق مثلًا، وإنما كانت في الأساس بسبب تمسك كل دولة من الدول الموقّعة على الميثاق، بألا يضم ما يمس سيادتها أو حرية تصرفها فيما تراه من سياسات.
في أثناء الحرب الإسرائيلية ظهر عجز جامعة الدول عن إرضاء الرأي العام العربي
استوقفني كلامه في هذا الشأن وقرأته أكثر من مرة، لأن ذلك الحرص الذي رافق كل دولة أثناء المفاوضات هو في الحقيقة الذي كبّل الجامعة منذ نشأت، وهو الذي أوقف نموها، وهو الذي جعلها غير قادرة على اتخاذ مواقف يرضى عنها الرأي العام، لأنها محكومة في النهاية بمثياق يحدد حركتها ويرسم مسارها، ولأن أمينها العام لا يستطيع مهما كانت قدراته الخاصة أن يتجاوز الميثاق ولا أن يتعداه.
في أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، ثم على لبنان في جبهة الشمال، ظهر عجز جامعة الدول عن إرضاء الرأي العام العربي كما لم يظهر في أزمة أخرى، ولا بد أنّ نظرة عابرة على ما تمتلئ به مواقع التواصل من تعليقات في الموضوع، تظل كافية للإشارة إلى مدى سُخط قطاعات عريضة من الرأي العام على أداء الجامعة تجاه الحرب.
صحيح أنّ مواقع التواصل ليست منصة موضوعية في هذا السياق، وليست مما يمكن أن نعوّل عليه في الأمر، ولا في تقييم الأشياء عمومًا، إلا أنها مؤشر في النهاية بين مؤشرات، ولا يمكن في أحيان كثيرة تجاهل ما تقوله وتنشره لأن هؤلاء الذين يقولون وينشرون عليها ليسوا كلهم سواء، ولأن فيهم أصحاب رأي جاد لا بد من وضعه في الإعتبار.
أداء الجامعة.. إذنْ.. لم يكن مُرضيًا أثناء هذه الحرب، ولم يحصل على الحد الأدنى من رضا الناس في المنطقة العربية، ولكن السؤال يبقى عما إذا كان عدم قدرتها راجع إليها هي ككيان في حد ذاته، أو إلى أمينها العام، أم إنه راجع إلى ميثاقها الحاكم لحركتها على أرض العرب؟.
لقد تابعنا زيارة لأمينها العام إلى بيروت في عز الحرب الإسرائيلية على جبهة الشمال، وتابعنا لقاءه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، والمبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتاين، ولكن الزيارة من جانب الأمين العام كانت محكومة بمدى ما يعطيه الميثاق له من مساحة للحركة، وربما لهذا السبب لم يكن للزيارة تأثير يُذكر على مسار الحرب، ولا على مجريات الأمور في العاصمة اللبنانية.
كان هو يرغب قطعًا في فعل شيء، ولكن العبرة هنا تظل بالقدرة على الفعل لا بالرغبة في الفعل، وقدرته هي قدرة الجامعة كمؤسسة لا قدرة شخص مثله، أو مثل أي أمين عام سابق عليه منذ أن تولى عبد الرحمن عزام باشا أمانتها العامة كأول أمين عام.
تحتاج الجامعة إلى أن يُعاد النظر في ميثاقها من خلال نظرة عصرية يمكن أن تضعها على طريق الفعل والتأثير
وربما لهذا السبب أصبحتُ أكثر فهمًا من جانبي لما كان الدكتور نبيل العربي، أمين عام الجامعة السابق، يردده طوال السنوات الخمس التي قضاها أمينًا عامًا. كان يقول إنه يشبه رجلًا يقود سيارة موديل ١٩٤٥ في بدايات القرن الحادي والعشرين. وكان القصد في عبارته أوضح من أن يكون في حاجة إلى شرح أو بيان، لأنه كان يشرح نفسه بنفسه وينطق بالمعنى الكامن فيه.
فإذا ضممنا ما قاله الدكتور هيكل باشا عن الصعوبات التي واجهت مفاوضات وضع الصيغة النهائية للميثاق، إلى زيارة الأمين العام إلى بيروت، إلى ما كان الأمين العام السابق يردده، أدركنا إلى أي مدى تحتاج الجامعة إلى أن يُعاد النظر في ميثاقها من خلال نظرة عصرية، فمثل هذه النظرة هي التي يمكن أن تضع جامعة الدول على طريق الفعل والتأثير.
(نقلا عن “عروبة 22”)