إيران دولة لها مصالحها وعليها التزاماتها، يحدها من جانب مصالح مرتجاة من سياسة الانفتاح على الغرب وامريكا ورفع العقوبات المفروضة عليها، ومن جانب آخر تحدد خطواتها وتحد منها تخوّفات من آثار مدمّرة على برنامجها النووي، وتهديدات تنال من منشاتها النفطية ما يؤثر على اقتصادها المثقل بالعقوبات والعقبات.
حسابات الدولة تختلف عن حسابات المقاومة، وإيران ـ كأي دولة ـ لها حساباتها واستراتيجيتها وأدواتها في العمل السياسي والأمني والاقتصادي في محيط المجتمع الدولي بقوانينه وتوازناته وقواعده المرعية.
مصالح إيران ترسم سياساتها، وأمنها القومي فوق إيديولوجيتها، وحدود حركتها ترسمها أهدافها، لا الدعاية الإعلامية، ولا البروباغندا السياسية.
الحسابات الإيرانية تنطلق من نقطة أنها دولة ذات تأثير كبير في محيطها الإقليمي، لكنها في الوقت عينه ليست دولة عظمى تتصرّف في العالم أو في إقليمها طليقة من أي قيد، ولا تخشى عقاب أحد، فدورها محدود بقصور قدراتها، وهي تدرك أن تزايد نفوذها في المنطقة يرجع إلى تراجع الدور العربي ونكوصه على أن يكون فاعلًا، مكتفيًا بوضع كل “بيضه في السلّة الأميركية”.
المعادلة التي تجمع حزبًا قويًا ودولةً ضعيفةً كما هو الوضع في لبنان تحذف من قوة الحزب وتزيد من إضعاف قوة الدولة
محور المقاومة الذي شاعت تسميته بالمحور الإيراني يضم أحزابًا وتنظيماتٍ وجماعاتٍ إيديولوجية مسلحة، وكل هذه الأطراف محسوبة في رصيد المركز كدولة وازنة في المنطقة، لكن التجربة أثبتت أنّ حسابات الدولة شكّلت عبئًا على أطراف المحور في الوقت عينه.
لكل طرفٍ في هذا المحور حساباتُه، ليس على أيٍ منها قيود كتلك التي تفرض نفسها على حساب الدولة، لكن يبقى هناك ما يحدّ من حركته، لأنه يتحرّك في محيط مجتمعه وظروفه ومخاوفه وهواجسه ومصالحه أيضًا.
ليست الدولة كالحزب المسلح، وإن اتفقت مع إيديولوجيته وشاركت في صياغة سياساته، أو توافقت مع بعض أو كل أهدافه. في كل الأحوال، يبقى للدولة مدار حركة في محيطها وفي مجتمع الدول بقواعده التي يتوجب عليها أن تراعيها.
يبقى للحزب السياسي المسلّح مساحاتٍ للحركة أوسع من التقيّدات المفروضة على الدول. من هنا، يصير الحزب إضافةً إلى الدولة الراعية كما يمكن أن يشكل عبئًا عليها لو تصادمت حركته مع مصالح أو استراتيجيات دولة المركز.
ومن السذاجة تصوّر أن تغدق دولة المركز على أطراف محورها من الدعم السياسي والتسليحي والمالي من دون أن تنتظر من كل طرف أن يراعي مصالحها إما بالامتناع عن فعل، أو بإتيان فعل آخر.
من هنا بالضبط تصبح إيران هي نقطة ضعف محورها، خاصة إذا كانت تحاصرها مشكلات مع محيطها الإقليمي، وتعاني من مشكلات أكثر مع المحور الغربي الذي يسيطر على صناعة القرار الدولي.
في أحيان كثيرة تبدو إيران بحاجة لأطراف محورها أكثر مما هُم بحاجةٍ إليها
مشاكل إيران مع محيطها الإقليمي تُحمّلها لأطراف محورِها بكل ما فيها من عداوات ومصالحات، وكذلك مشاكلها مع المحور الدولي المناوئ لها تنتقل تبعاتها بالضرورة إلى أطراف محورها.
بالدعم تعطي الدولة-المركز أطراف محورها قوة لتحقيق أهدافها، وبالدعم يمكن أن تضبط حركتها على مقاس مصالحها أو على إيقاع تكتيكاتها في إطار استراتيجيتها.
فشل نتنياهو في تحقيق أهداف حربه ضد المقاومة في غزّة ولبنان، لكنه استطاع أن يمضي قدمًا في تسديد ضربات تكاد تكون مميتة لأطراف المحور في طريقه إلى رسم خريطة جديدة في المنطقة يتقلّص فيها النفوذ الإيراني وينحسر دورها في المنطقة.
قيّدت الحسابات الايرانية المعقّدة حركات المقاومة بما تقيّد به نفسها، فقصرت يد المقاومة بحسابات ليست من كيسها، وربما عبّرت عن ذلك عبارة السيد حسن نصر الله في معرض حديثه عن الردّ المرتقب للحزب على اغتيال فؤاد شكر أنه (لن يكون ردًّا شرفيًا) في تلميح واضح إلى الردّ الإيراني على العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق المكلومة.
المعادلة التي تجمع حزبًا قويًا ودولةً ضعيفةً كما هو الوضع في لبنان لا يمكن أن تكون نتيجتها إضافة، بل هي في الحقيقة حذفٌ من كلا عنصرَيْ المعادلة، تحذف من قوة الحزب وتزيد من إضعاف قوة الدولة، بما يخلق بالضرورة تناقضًا لا يمكن تجاوزه تحت شعارات ولو كانت صحيحة وصادقة.
تلك نقطة ضعف الحزب مهما امتلك من قوة السلاح، كما أنها نقطة ضعف محور المقاومة كله، ولا يمكن إنكار أنّ الدعم الإيراني للمقاومة الإسلامية في فلسطين كان بلا شك إضافةً نوعية لقدرة المقاومة على الاستمرار لكنه في الوقت عينه كان نقطة ضعف للمقاومة في محيطها العربي.
“الأجندة” الإيرانية لا تتضمّن الدخول في مواجهة شاملة مع أميركا لكنها لن تتوانى عن اقتناص بعض المكاسب بعد الحرب
في المواجهة مع أميركا حامية إسرائيل، لا تستطيع إيران أن تلعب دور حامية أطراف محورها، بل في أحيان كثيرة تبدو إيران بحاجة لأطراف محورها أكثر مما هُم بحاجةٍ إليها على الرغم من اعتمادهم الكامل على كل أنواع الدعم الذي توفره لهم. هي دولة محورية لكنها أقل من دولة حامية.
“الأجندة” الإيرانية لا تتضمّن الدخول في مواجهة شاملة مع أميركا، بل هي متفقة مع السياسة الأميركية الرامية إلى تجنّب توسيع رقعة الحرب في المنطقة، لكنها لن تتوانى عن تعظيم دورها واقتناص بعض المكاسب عند لحظة إعادة توزيع الأدوار بعد أن تخفت أصوات الحرب.
ربما تكسب إيران مكاسب آنية وأخرى مستقبلية في إطار دور جديد لها في محيطها في ظل الهندسة الأميركية للشرق الأوسط الذي تخطّط له، ذلك المخطّط الذي من المؤكد أنه سيفرض عليها تحوّلات استراتيجية قد تكون جذرية بما يحدّ من تمدّدها ويُضعف من فرص استمرار محورها.
(نقلا عن “عروبة 22”)