(“بانوراما”: تاريخ مصر الحديث على امتداد أكثر من قرن ونصف)
محمد بدر الدين
الكتاب: ميلاد ثورة
المؤلف: محمد عودة
الناشر: دار الجمهورية 1971
صدر كتاب “ميلاد ثورة” للكاتب الصحفي، المفكر والمؤرخ، محمد عودة في ذكرى مرور عام بالتمام على رحيل القائد جمال عبد الناصر (العدد “31” من كتاب دار الجمهورية، أكتوبر 1971). وللأسف لم يعاد طبعه مرة أخرى على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على صدور طبعة 1971. وهذا للأسف أيضاً: شأن معظم كتب عودة – التي تجاوزت العشرين كتاباً – ولها جميعاً أهميتها الكبيرة وتميزها الحقيقي، وعمقها ودقتها الواضحين مع الاتسام بالبساطة والسلاسة الآسرين في آن. أضف تنوعها الملحوظ ما بين كتب في قضايا وتاريخ الوطن المصري، والوطن الأكبر العربي، والعالم: مثل كتبه عن الحملة الفرنسية على مصر، والثورة العرابية، والاحتلال البريطاني لمصر 1882، وعهد “فاروق” آخر ملوك أسرة محمد علي، وميلاد ثورة مصر 1952، والرد على حملات وتحاملات خصوم الثورة خاصة في السبعينيات الماضية في مجموعة كتب. وعربياً: كتبه عن ثورة العراق، وثورة اليمن، وغيرهما. وعالمياً: كتبه عن الهند وقيادة نهرو، وعن “الثورة الصينية”.. كتابه المبكر – في الخمسينيات – الذي لفت الأنظار إلى تميز كتابته، ولقى احتفاء وتقديراً كبيرين.
(2)
كتاب “ميلاد ثورة” عن ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، ويتكون من ثمانية عشر فصلاً (في 288 صفحة)، لكن مؤلفه يخصص ما يقارب نصفه الأول في التناول والتحليل واستخلاص الدروس بشأن “جذور النضال المصري” (إذا استلهمنا العنوان المعروف لأحد أبواب الميثاق الناصري 1962)، ولا يعود المؤلف إلى “جذور” أو “مقدمات” ثورة 1952 في مدى آخر عقد أو عقدين قبل قيامها أي “تاريخ مصر المعاصر”، وإنما يعود ويتعمق أكثر، ويبدأ من مرحلة الحملة الفرنسية على مصر 1798، وعهد محمد علي الذي بدأ في 1805 أي “تاريخ مصر الحديث”.
وتتوقف فصول الكتاب عند عام 1956 حيث تأميم قناة السويس فمؤامرات وتفاصيل ما يعرف بالعدوان الثلاثي ونتائجه.
ويعد مؤلف الكتاب في نهايته بالاستكمال في جزء تال ليتم تناول عصر جمال عبد الناصر، لكن يحقق محمد عودة ذلك بالفعل من خلال كتبه التي رد فيها على الحملة المستعرة الجديدة وقتها (السبعينيات) ضد عصر جمال عبد الناصر ككل، شخصه ونهجه ومشروعه وجميع مواقفه وكل ما يمت للعصر بصلة.. بتخطيط وتوجيه واضحين ممن ترأس الدولة في أعقاب جمهورية جمال عبد الناصر.
وأبرز هذه الكتب وأشملها: كتاب “الوعي المفقود”، من خلال إطار الرد على كتاب شارك في الحملة لأديب بارز (“عودة الوعي” لتوفيق الحكيم). وكان كتاب الحكيم من أهم الكتابات التي روج لها واستغلها حلف الحملة الرجعية، لأهمية اسم كاتبه، فهو من الرواد المؤسسين في تأليف المسرحية والرواية العربية.
لكن في نفس الوقت، بين كتب مقاومة الحملة الرجعية والمتملقة إلى جانب كتاب “الوعي المفقود” وكتب أخرى لعودة، كتاب محمد حسنين هيكل “لمصر.. لا لعبد الناصر”، وكتاب فيليب جلاب “هل نهدم السد العالي؟!”، وكتاب د. عصمت سيف الدولة “هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟”، وكتابات أحمد بهاء الدين ومجلة “الطليعة” وكتب د. فؤاد مرسي وعبد الله إمام وحسنين كروم ومحمود مراد.. فضلاً عن الكتاب البارز “ناصريون؟ نعم” للمناضل الكبير كمال رفعت أحد فرسان ملحمة ثورة ودولة 23 يوليو.. وغير ذلك في مقدمة أعمال مقاومة ودحض الحملة المشبوهة ضد مصر وعصر ناصر وما ورائها ومن ورائها.
(3)
من الصعوبة حقاً، تقديم خلاصات كتاب عودة القيم الزاخر “ميلاد ثورة”، خاصة وأنه نفسه: استخلاصات قراءة في تاريخ حافل طويل (أكثر من قرن ونصف قرن) لمصر والصراع عليها وفيها، وحلقات الثورة والحركة الوطنية فيها في مواجهة خصومها الشرهين (بقدر ما هم شرسين مدججين) من القوى الاستعمارية الكبرى السائدة بجبروتها وجرائمها في العالم آنذاك، المستشرية كوباء خطير يجتاح (خاصة الثنائي البريطاني الفرنسي)، لكن لم تكن تكف القوى الشريفة المناضلة في كل مكان عن المقاومة والاستبسال في مواجهة زحف الجيوش الإمبراطورية للاحتلال والنهب الواسع بغير حد ولا وازع.
وفي مصر نقرأ لدى تناول ودروس محمد عودة أسماء رموز وقيادات في المقاومة وأحقاب الحركة الوطنية المصرية المتواصلة مثل (عمر مكرم – أحمد عرابي – مصطفى كامل – محمد فريد – سعد زغلول – مصطفى النحاس..) وغيرهم. وهو يرصد في فصل رائع – الفصل السادس – بعنوان “البطل” ويحلل مسيرة وسير هؤلاء وسواهم بتكثيف متعمق بقدر ما هو شيق.. وصولاً إلى ظهور الأحدث (القائد الجديد جمال عبد الناصر)، فيقول عودة (ص 136):
• “كان لابد من قائد جديد، وكان هناك في ثورة مصر “دور هائم يبحث عن بطل”.. لابد من البطل الجديد ليقود الثورة الوطنية والاجتماعية المصرية، وليحققها كاملة في عصر جديد مختلف: في عصر الثورة العالمية.. وفي عصر الثورة الأسيوية الإفريقية وانتصار الاشتراكية.. وفي عصر الثورة التكنولوجية والآلات المفكرة.. وفي عصر نهاية الإمبريالية الأوروبية وبداية الإمبريالية الأمريكية وعصر الحرب الباردة والأسلحة الذرية… ولكن على أن يكون أيضاً استمراراً لتاريخ مصر وتراثها، وتكملة للماضي وبغير عيوبه ونقائصه.. وكان لابد لمصر التي لا تعقم أبداً أن تنجبه. وخرج وأدى الرسالة”.
وكان عودة قد بدأ هذا الفصل نفسه “البطل” بالقول (ص 123):
• “قال الضابط الكبير “أحمد عرابي” منذ ما يقرب من تسعين عاماً: “هل تظن أن مصر قد عقمت ولم تلد سوى هؤلاء؟ إن مصر لم تعقم أبداً”. وقبل أن يموت عرابي بأسابيع قال لبريطاني كان مهتماً بأن يسجل آخر أحاديثه: “سوف يأتي جيل بعدنا، وسوف يفهمني، وسوف يحقق ما أردت وعجزت عنه..”. ولهذا كانت ثورة 23 يوليو وكانت قيادة هذه الثورة “حدثاً” محتوماً و”مكتوباً” في تاريخ مصر..”.
يستكمل عودة (في ص 124):
• “كانت قوى جيل بأكمله تلي ثورة 1919 وعاش كل أزمتها وانتكاسها، كان الجيل فلاحين وعمالاً ومثقفين وضباطاً وجنوداً وكان برجوازيين وملاكاً وطنيين وثوريين من كل اتجاه، كل منهم يفكر في ثورة بأي طريقة.. ثورة الجيل، ولكل جيل في تاريخ مصر مسيرته وثورته، ولكن هؤلاء كانوا ثمرة كل السابقين، وكان يجمع بينهم تصميم واحد هو أن تكون الثورة القادمة هي الثورة الحاسمة..”.
مضيفاً المؤلف.. في ضرورة ثورة 23 يوليو وقيادة عبد الناصر (في الصفحة نفسها والتي تلتها ص 125):
• “.. من كل هذه القوى “الحاسمة” حديدية التصميم كان لابد أن يخرج قائد يمثلها ويعبر عنها، ولابد أن يكون تجسيداً نموذجياً لإرادتها وأحلامها.. ولهذا لابد أن يكون فلاحاً مصرياً “قحاً” وأصيلاً من صميم مصر.. ولابد أن يكون صارماً صلباً صلابة صخور الجرانيت التي لا تنكسر والتي خلدت استمرار مصر وبقاءها.. وكان لابد أن يكون خلاقاً خصباً خصب أرض مصر وتربتها التي لا تنضب. وكان لابد أن يكون إنساناً بعمق وعنف ألام وشقاء مصر.. الآلام والأحزان من كل نوع، والشقاء الذي يورث جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، لا يفرغ ولا ينتهي.. كان لابد أن يكون فارساً مقاتلاً حتى الموت وبسيف هرقل ليواجه كل الأعداء الذين لا ييأسون والذين ينفذون من كل ثقب وكل باب.. وكان لابد أن يكون سياسياً حكيماً يتفادى الضربات ويجتاز “المزالق” ويتخطى العواصف والأعاصير التي تهب من كل اتجاه، ولابد أن يصل لشاطئ النجاة.. كانت القيادة المنشودة قيادة عسكرية سياسية فكرية روحية تستطيع أن تفكر وتستطيع أن تفعل وأن تحقق، وتستطيع أن تلهم مصر، وتنفذ إلى أعمق ثنية في روح مصر، يدفعها في كل هذا إيمان عظيم هو مصر.. وقائد الثورة المصرية لابد أن يكون إبناً عظيماً لها ومعبراً عنها بوعيه وفطرته وإلهامه وبكل حكمة مصر المختزنة في نفسه، ولكنه لابد أن يعيش بنفس العمق روح العصر وأن يعرف كل حقائقه، ولابد أن يمتد بأفقه بعيداً إلى أقصى مدى إلى العالم القريب أو البعيد المحيط بمصر..”.
(4)
يقدم محمد عودة في آخر فقرة من آخر صفحة في الكتاب “خلاصة” أخرى وأخيرة: مع الزمن الذي توقفت عنده الكتابة التاريخية السياسية للفصول (أي حرب السويس 1956.. عدوانهم وفشله، مقاومتنا وفوزنا بحقنا في القناة). تقول هذه الفقرة (ص 287):
• “.. خرجت الثورة المصرية منتصرة. كانت كل الحسابات الغربية تؤكد أن ضربة قوية من الخارج ستدفع الشعب كله إلى الانقضاض على النظام، ولكن ما حدث كان العكس تماماً: كان الغزو تعميداً جديداً للثورة، ولقد فشلت الرجعية الداخلية سنة 1954، لأنها لم تجد سنداً خارجياً، وفشل السند الخارجي سنة 1956، لأنه لم يجد رجعية داخلية، وظل الشعب المصري هو العامل الحاسم، كانت ثورته وكان تاريخه، وكان الغزو ميلاداً جديداً. هذه ثورة لن تنتكس، لن يقضي عليها أحد، لقد ولدت لتبقى”.
ويقف الكتاب بالتفصيل أمام كل المراحل وأهم المواقف في “جذور النضال” قبل ميلاد الثورة في 1952، وأمام كل المعارك وأهم المعالم منذ هذا الميلاد إلى “الميلاد الجديد” في 1956.
يمكن القول أن فصوله إطلالة “بانوراما” على تاريخنا الوطني الحديث ككل.. ولقد يكون الممكن هنا أن نختار “لمحات” أو “لحظات” على الطريق الطويل، وإذا استلهمنا “خلاصة” الفقرة الأخيرة من الصفحة الأخيرة فقد نتوقف مرة أمام ما تطرقت إليه من أنه: “فشلت الرجعية الداخلية سنة 1954، لأنها لم تجد سنداً خارجياً”، ومرة أمام ما أضافت بالقول أنه قد: “فشل السند الخارجي سنة 1956..”. أي ما يعرف (بأزمة مارس 1954)، ثم العام 1956 الحافل بالتأميم التاريخي الكبير وبملحمة مقاومة العدوان الثلاثي الكبرى.
فبعد أن يستعرض محمد عودة ويحلل المسار منذ قيام الثورة في 23 يوليو، ومشروعها وعلاقتها بالشعب الذي وجد فيها كل التعبير عما يرفض وعما ينشد، ومواقف مختلف القوى منها داخلياً وإقليمياً ودولياً، يصل الفصل السابع بعنوان “التحدي والتغيير” إلى محطة: أزمة مارس 1954.
لقد تحالفت ضد الثورة الأحزاب والجماعات والقوى، حتى المتباينة كلياً ومتعارضة المصالح، لكن التي لها كلها في إزاحة وتصفية “كابوس الثورة” بالنسبة لها: يميناً ويساراً ومن أي اتجاه أو صوب.
يذكر الكتاب (ص 145):
• “.. وتجمعت كل هذه القوى وقام حلف كان يقوم لأول مرة بين أطراف مختلفة أشد الاختلاف، وهي أطراف حارب بعضها بعضاً طويلاً، ولم يسبق أن اتفقت أو تهادنت من قبل أو من أجل المعركة ضد الاستعمار، ولكنها تحالفت اليوم في مواجهة الثورة..”.
ويمضي الكتاب، يضيف (ص 146):
• “واستطاع الحلف “غير المقدس” يومئذ أن يستدرج الكثير من الوطنيين وأن يلقي غشاوة على أعين كثيرين تحت شعارات الحرية والديمقراطية التي أغرقت بها الحياة السياسية يومئذ.. ونفذ الحلف إلى صفوف الثورة وخلق انشقاقاً داخلها.. وكان “الضباط الأحرار” قد وضعوا على رأس الثورة قيادة شكلية اختاروها لتكون واجهة ثورتهم، وربما لتكون جسر استمرار واتصال، ولكن تلك الواجهة القيادية كانت بتكوينها وبطبيعتها تنتمي إلى النظام “القديم”، ولا تستطيع أن ترى خلال الناس والأحداث ولا تؤمن بقدرة الثورة على المضي وحدها خطوات أبعد، كان لها تاريخها العسكري، ولكن لم يكن لديها الوعي أو الأفق السياسي ورأت أنه من الأفضل أن تسمى الثورة نهضة ولهذا عارضت الإصلاح الزراعي، وأرادت التفاهم مع الأحزاب والسياسيين القدامى بأي ثمن، بل رأت أن مكان مصر الطبيعي هو هو ويجب أن يظل مع الغرب..”.
أيضاً (الصفحة نفسها وص 147):
• “واستدرج الحلف أيضاً بعض العناصر الطيبة من الضباط الثوريين ومن المثقفين ممن لم يكونوا يتصورون الثورة بغير ديمقراطية ولكن لم يكونوا يومئذ يفرقون بين الديمقراطية كواجهة والديمقراطية كحقيقة والديمقراطية في ظل أحزاب تستخدمها للوصول للحكم والديمقراطية في إطار ثورة تغير وتحرر حياة الشعب.. وأضرم الحلف الأزمة في مارس سنة 54، وبدا للحظات أن كل شئ قد تهدد، وأن القوى المتخلفة والمتطرفة والمضللة توشك أن تنتصر وأن عقارب الساعة توشك أن تعود للوراء، ولكن هبت الجماهير وانضمت على الفور للثورة، وأعلن الإضراب العام وأسقطت الطبقة العاملة المؤامرة.. تحركت الجماهير وطليعتها وهم العمال وتأكد يومها الالتصاق التام بين الشعب والثورة، والذي امتد حتى يومي 9 و10 يونيو وأسقط الشعب المحاولة اليائسة، ولكنها كانت معركة عصيبة وحافلة بكل المتناقضات، وارتفعت فيها كل الشعارات واحتاجت إلى كل الحزم، كما احتاجت إلى كل الحكمة وإلى إزالة البثور ولكن بغير جرح لجسم الأمة أو وحدتها… وقد قادها الرجل الذي كان يستطيع قيادتها، وكان قائد الثورة الحقيقي والذي عرفته الجماهير والتقيا من يومها لأول مرة، ومن مارس سنة 1954، بدأت مرحلة جديدة.. والثورة بوجهها وقيادتها الحقيقية انتصرت، وسقطت آخر محاولة للنظام القديم.. وبدا عهداً جديداً تماماً بدأت الثورة به”.
(5)
يتحدث بتفصيل كتاب “ميلاد ثورة” في الفصل الثاني عن (الجيش المصري) وحاله ومراحله في التاريخ الحديث، وفي الفصل الرابع عن “القضية الوطنية” وجولات كفاح الشعب والحركة الوطنية في مصر ضد الاحتلال البريطاني منذ بداية كابوسه في 1882، حتى تحقيق “الاستقلال التام” واتفاقية الجلاء على يد ثورة يوليو 1952، وفي الفصل الخامس في “القضية الاجتماعية” عن أحوال الشعب المصري بمختلف طبقاته وفئاته اقتصادياً واجتماعياً على مدى أكثر من قرن حتى حضور عصر 23 يوليو وثورته الاجتماعية لصالح أوسع الجماهير فلاحين وعمالاً وطبقة متوسطة ومجمل قوى الشعب العاملة الكادحة، وفي الفصل العاشر “السلاح من روسيا” عن كسر احتكار السلاح 1955، الحدث المصري الثوري الضخم الذي هز العالم وخاصة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وفي الفصل الثالث عشر “معركة السد” عن ملحمة النضال الكبير من أجل بناء السد العالي، وفي الفصل الرابع عشر “ضربة القناة” عن الحدث التاريخي تأميم القائد الشاب لثورة 23 يوليو لقناة السويس (التي كانت دولة داخل الدولة لحساب المستعمرين)، ويختتم الكتاب بفصول: مناورات (قبل العدوان الثلاثي) – العدوان – حتى الفصل الثامن عشر والأخير بعنوان “فشل العدوان”.
كما يتحدث الكتاب بتوضيح كبير وتحليل عميق عن مواقف مختلف الأطراف المعادية لمصر الثورة: إمبراطوريتي الاستعمار القديم بريطانيا – فرنسا، الكيان المغتصب للأرض العربية في فلسطين منذ 1948 “إسرائيل” – الاستعمار الجديد أمريكا التي لديها مخططات كاملة لتحل كلياً ونهائياً محل الإمبراطوريات القديمة وبما أطلقت عليه “ملئ الفراغ” في نفس مناطق النفوذ مما يوضحه الكتاب بتدقيق ومن خلال وقائع ومواقف كثيرة.
(6)
في جوانب وقضايا يذكر الكتاب على سبيل المثال:
• (ص 179):
“كان حقد بن جوريون على عبد الناصر بلا حدود.. كان يقول: “إن لليهود عدوين تاريخيين هما فرعون في القديم، وهتلر في الحديث، ولكن جمال عبد الناصر فاق الاثنين معاً” وقال: “بعد سقوط نجيب، وانتصار عبد الناصر في مارس 1954 يتيقن أنه لابد من الحرب لإسقاطه”! ولم يكن بن جوريون وحده في هذا التصميم، بل كانت هناك بريطانيا..”.
• (ص 184):
“كما قال أحد مؤرخي رئيس وزراء بريطانيا إيدن: في مارس سنة 1956 اتخذ إيدن قراراً نهائياً بأن عبد الناصر وراء كل متاعبه في الشرق الأوسط، وأنه لا مناص من تحطيمه لرد هيبة بريطانيا، ولرد هيبته الشخصية، وأدى به هذا إلى حرب السويس حيث فقدت بريطانيا هيبتها، وفقد إيدن كل مستقبله وصحته”!.. وكان الطرف الثالث فرنسا..”.
• (ص 187):
“.. لم تكن الجزائر لتشتعل، ولم تكن لتستمر لولا هذا السيل من الأسلحة والمتطوعين والفدائيين الذي يتدفق من مصر.. وإخماد ثورة الجزائر لابد أن يبدأ في القاهرة.. قال جاك سوستيل حاكم الجزائر السابق وأحد أقطاب الاستعماريين المتعصبين بعد ذلك: “إن غزو عبد الناصر إنما يعني أن فرنسا تعرف كيف تضرب رأس الأخطبوط الذي يمتد بأذرعه ليلتهم شمالي أفريقيا الفرنسية، إن المكاتب القذرة التي تصدر منها التعليمات لسفك الدماء، والأرصفة التي تشحن منها الأسلحة للقتل في الجزائر، والثكنات التي يدرب فيها الإرهابيون.. كلها سوف تقع في قبضتنا!”.
• (ص 285):
“لم تخف نظرية آيزنهاور ومشروعه أهدافها الأساسية ومطامعها وأولها أن تحل الولايات المتحدة محل بريطانيا وفرنسا وأن تصبح الدولة العظمى الوحيدة في المنطقة.. ثم أن تدعم وتعبئ القوى والنظم العربية الموالية للغرب، وأن تنسق وتحول ولاءها كاملاً للولايات المتحدة الأمريكية.. وكان الهدف الثالث هو حصار الثورة المصرية وناصر الذي خرج من الأزمة (بعد حرب السويس 56) بطل العرب، وأحد أبطال العصر، وبدأ الحصار بمنع الدواء والقمح عن مصر.. وكان الهدف الآخر الذي لا يقل أهمية هو طرد الاتحاد السوفييتي من المنطقة، وكان قد اكتسب عطفاً واسعاً بموقفه خلال الأزمة وقبلها، ولابد أن يحاصر هذا النفوذ وأن يصفى..”.
(7)
في كتابة جميلة دقيقة للغاية، يعبر الناقد والمفكر العملاق د.علي الراعي عما تتميز به كتابات محمد عودة وتمتاز، في مقال بجريدة “الأهرام” (في 3 ديسمبر 1995)، كان مما جمع من مقالات له بعد رحيله في كتاب بعنوان “بين الأدب والسياسة” وبمقدمة راقية لابنته المثقفة الرفيعة د. ليلى الراعي (صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2004).
كان مقال الراعي بمناسبة صدور كتاب عودة “كيف سقطت الملكية في مصر؟ ـ فاروق بداية ونهاية” وهو من آخر ما أصدر(وقد رحل عودة في 18 أكتوبر 2006).
يستهل علي الراعي مقاله بالقول:
“يجري قلم محمد عودة على الورق فيبلغ السمع والبصر والفؤاد، ليروي لنا ملحمة كبرى من ملاحم الشعب المصري ذي النضال المتصل، الذي لا يهدأ ولا يلين، يقدم لنا محمد عودة هذه الملحمة الكبرى في عذوبة أسلوب رواة السير الشعبية، وفي تأنق المتشدق واسع الأفق كبير القلب، الذي يضع ثقافته في خدمة رأيه دون تنطع أو تقعر أو زعيق.. مثقف لم يخبر الأحداث وحدها – أحداث التاريخ – بل عرف أيضاً أحداث الروح وما تلهمه من فن وموسيقى ومسرح وسينما. وهو أخيراً يقدم هذه الملحمة في أسلوب الأكاديمي عريض النظرة الذي عرف منذ زمن بعيد، أن الأكاديمية ليست سجناً ولا حاجزاً ولا مانعاً بين الأكاديمي والناس. لهذا فهو يحطم جدران الأكاديمية ليبلغ أسماع الناس مباشرة كي ينفعهم بما عرف لا لكي يتعالى عليهم بما عرف..”.
ما يقال هنا في المقال، عن كتاب في خواتيم مسيرة عودة الزاخرة، بما قدم وينفع الناس أبداً، ينطبق بالتأكيد على غيره مما أصدر، منذ الكتاب الأول “الثورة الصينية” مروراً بكتابيه (ميلاد ثورة – الوعي المفقود) اللذين يكونا في تقديرنا “ثنائية” (كما ذكرت ذلك للأستاذ عودة نفسه وأقر بما قلت.. إنما ثنائية ملحمة ثورة يوليو الناصرية).
•
ينطبق على مجمل ما أصدر عودة، ما قاله الراعي في مقاله، عن كاتب وصفه (بأنه مؤرخ كفاح الشعوب)، وعن كتاب وصفه (بأنه فن رواية التاريخ). إذ يقول عن محمد عودة وكتابه هذا:
“أخرج لنا مؤرخ كفاح الشعوب، عملاً كبيراً يمثل أصدق تمثيل ما أسميه: فن رواية التاريخ.. التاريخ يصبح فناً مروياً، أعظم ما فيه أنه يجمع بين عذوبة الفن، وجمال الحقيقة. كتاب “فاروق بداية ونهاية”، يضم فنون الرواية إلى فنون التوثيق. يصبح بهذا وثيقة تصف الماضي والحاضر معاً”.
نعم.
كذلك عودة في “ميلاد ثورة”.
وفي كل كتبه.