استهداف سوريا وجودًا ودورًا لم ينشأ اليوم. إنّها قصة طويلة ومؤلمة. بحقائق الجغرافيا السياسيّة إذا ما سقطت سوريا تتقوّض مصر ويخسر العالم العربي كله أيّ مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره. هذه واحدة من بديهيّات نظريّة الأمن القومي.
بعد حرب السويس عام ١٩٥٦ وفشل إخضاع مصر، وُضعت خطّة أميركيّة أطلق عليها “ستراغل”. كانت تقضي بأنّ إسقاط سوريا يُفضي مباشرةً إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربي.
كانت سوريا مهدّدة في صميم وحدتها الداخليّة ومكشوفةً لضغوطٍ إسرائيليّة وتدخّلات تركيّة، ومشروعات انقلابات عسكريّة، أو غزو من الخارج، يقوده رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، الرجل الذي ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكريّة في المنطقة.
بحكم موقعها الجغرافي لم يكن ممكنًا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أي ادّعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربي بأي ذريعة.
الخطر ماثل تحت الأبصار والعالم العربي في غيبوبة
لم تكن مصادفة أنّ سوريا – بالذات – هي البلد الذي احتضن الفكرة العروبيّة في مواجهة “التّتريك” ونشأت فيه – قبل غيره – الحركات ذات التوجّه القومي العربي.
ولم تكن بلاغة تعبير أن توصف بـ”قلب العروبة النابض”. بحكم موضعها في المشرق العربي فهي عاصمته الطبيعيّة. وبحكم اتصال الأمن القومي المصري بها فهي توأمته. وبحكم حدودها مع الدولة العبريّة فهي طرف في صراع وجودي. وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسّط فهي مركز استراتيجي. وبحكم اتصالها بشبه الجزيرة العربيّة حيث موارد النفط، فهي تحت بصر المصالح الغربيّة.
المصير السوري هو شأن كل بلد عربي وكل مواطن عربي يدرك ما حوله.
الحقائق تؤكد نفسها من جديد مع سقوط حلب العاصمة الاقتصاديّة للبلد وأهم مدنه بعد دمشق.
إنّه نذير بانقلابات وتحوّلات استراتيجيّة قد تضرب الإقليم كله. الخطر ماثل تحت الأبصار والعالم العربي في غيبوبة.
القضية ليست “بشار الأسد” ولا مستقبل نظامه بقدر ما هي وجود سوريا نفسها. نقد السجلّ السّوري في الحريّات العامة وحقوق الإنسان والدّعوة إلى مصالحة حقيقيّة على أُسُس ديموقراطيّة حديثة مشروع تمامًا، بل هو واجب المعارضة الوطنيّة. أمّا الاحتفاء بتقدم جماعات إرهابيّة ومرتزقة تحرّكها الاستخبارات التركيّة، والتواطؤ الأميركي – الإسرائيلي حاضر في المشهد، شيء آخر تمامًا يجلب العار لأصحابه.
لم يكن هناك استعداد جدّي يصدّ الخطر عن حلب، هذا إهمال جسيم لكنه لا يبرّر التجهيل بالنار الموقدة ومغزى توقيت إشعالها في سوريا الجريحة.
كان اختيار يوم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانيّة موعدًا لبدء اجتياح حلب مقصودًا لإشعال نيران جديدة في الشّرق الأوسط لأهداف أوسع وأخطر. كان اتفاق وقف إطلاق النار إجباريًّا وهشًّا في الوقت عينه.
إجباري بقدر الإنهاك الفادح، الذي نال من الجيش الإسرائيلي وحاجته الماسّة إلى أسلحة وذخائر جديدة، باعتراف بنيامين نتنياهو نفسه. وهشّ بقدر ما تضمنته وثيقته من ثغرات وإملاءات يستحيل أن تصمد طويلًا.
أرادت إسرائيل أن تكسب بالتفاوض ما لم تحصده بالسلاح. استهدفَت الوثيقة تفكيك سلاح “حزب الله” وفرض قيودٍ مشدّدة تمنع إمداداته عبر الحدود السوريّة. هناك فارق جوهري بين إخضاع سلاح “المقاومة” لصالح الدولة وبين فرض الهيمنة عليها، كأنّها محميّة إسرائيليّة يجوز اختراق أجوائها وارتكاب كل الجرائم والانتهاكات بذريعة “الدّفاع عن النّفس”.
إذا ما أحكمت إسرائيل قبضتها على سوريا وحدودها فإنّ وجه المشرق العربي كله سوف يتغيّر.
كان ذلك – بالضبط – هو صلب ما قصده نتنياهو أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، أو في تصريحات متكرّرة عن شرق أوسط جديد يستهدفه من حربَيْ غزّة ولبنان.
لم يكن يقول كلامًا شعبويًّا قبل وقف إطلاق النار عندما حذّر الرئيس السوري من مغبّة تمرير السّلاح لـ”حزب الله” عبر أراضيه: “لا تلعب بالنّار”.
تركيا تولّت المهمّة على الرّغم من قطع علاقاتها مع إسرائيل احتجاجًا على حرب الإبادة، التي تشنّها على الفلسطينيّين في غزّة. كانت تلك مفارقة كبرى.
أخذت الاستعدادات التّركية وقتها تسليحًا بأحدث المسيّرات والصواريخ وحشدًا لقواتٍ ضمّت مرتزقةً وإرهابيّين، وفق التصنيف الدولي لـ”هيئة تحرير الشّام”، جبهة “النّصرة” سابقًا، التي خرجت من عباءة “القاعدة”، وجماعات مسلّحة أخرى حتى تكون الضّربة قويّة ومباغتة.
لم يكن ممكنًا أن تُقْدِم أنقرة على هذه الخطوة من دون إطلاع واشنطن عليها مسْبقًا، وبطبيعة الحال كانت إسرائيل في صورة المعلومات.
هكذا سقط “تحالف الضّرورة”، الذي ضمّ روسيا وإيران وتركيا مفضيًا إلى سنوات من عدم التّصعيد فوق الأراضي السوريّة. وسقطت تفاهمات العاصمة الكازاخستانيّة آستانا، التي ضمت لسنوات ممثّلين عن المعارضة والنّظام السوري من دون أن تصل إلى نتيجة.
حقبة دمويّة جديدة حساباتها مختلفة وأخطارها قد تفضي إلى سيناريوات تقسيم خرائط ومناطق نفوذ
يُعزى الانقلاب التركي على مشروع المصالحة إلى رفض الأسد تطبيع العلاقات مع تركيا قبل انسحاب كامل قواتها من الأراضي السوريّة. يُحسب ذلك الموقف له لا عليه، لكنه لم يتحسّب للظّروف القهريّة التي تعتري حلفاءه، الروس والإيرانيّين و”حزب الله”، وتضع حدودًا لأدوار المساندة الممكنة.
إنّنا أمام حقبة دمويّة جديدة، حساباتها مختلفة وأخطارها قد تفضي إلى سيناريوات تقسيم خرائط ومناطق نفوذ، أو صفقات غير مستبعدة يتقرّر بمقتضاها المصير السوري من دون أن يكون العالم العربي متنبّهًا، أو بوارد لعب أي دور مؤثر في حركة الحوادث المشتعلة بالنّيران.
أسوأ ما يحدث في العالم العربي باللحظة الحالية: اختلاط الأوراق والتدليس على الحقائق في الخطاب الإعلامي بما يلامس مسارح اللامعقول.
(نقلا عن “عروبة 22”)