مع كل إعلانٍ عن حجم الإنفاق العسكري في العالم، ومبيعات الشّركات الكبرى لإنتاج الأسلحة، يُلِحُّ السّؤال القديم – الجديد: ماذا لو تمّ توجيه ذلك الإنفاق للتنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة بما يغيّر مستويات حياة البشر والخدمات العامّة في كلّ المجالات؟.
بالطبع لا يمكن الاستغناء عن الإنفاق العسكري إلّا إذا نجح البشر في خلق عالم مثالي لا يوجد فيه نزوع للاستحواذ والغزو والاعتداء من دولة على دولة أخرى، مع وجود سلام أهلي داخلي قائم على العدالة والتّراضي بما يستبعد الصّراعات الأهليّة، وهو عالم غير موجود في الواقع، ولا يُنتظر وجوده في أي مدى منظور.
وتقتضي النّظرة الواقعيّة تخصيص قدر معتدل ومقبول من الموارد للإنفاق العسكري ومشتريات السّلاح لتحقيق الأمن وضمان سلامة أراضي الدّولة وحدودها وأصولها الاقتصاديّة، من خلال بناء قوّة الرّدع وتحقيق التّوازن العسكري مع الجيران، علمًا أنّ سيادة السّلام بين الدّولة وجيرانها، والسّلام الأهلي الداخلي من أهمّ العناصر المشجّعة للاستثمارات المحليّة المحرّكة للنموّ الاقتصادي وخلق الوظائف وجذب الاستثمارات والسياحة الأجنبيّة.
هناك من يعمل بشكل دؤوب على إشعال الحروب باعتبارها مصدرًا للدّخل والتفوّق والهيمنة
لكنّ تحديد القدر المقبول من الإنفاق العسكري لا يرتبط فقط بالحجم الفّعلي للتهديدات الخارجيّة، بل بتقدير السّلطة لتلك التهديدات التي يمكن أن تنطوي على مبالغات كبيرة ترتبط بمصلحة المجمّع الصّناعي – العسكري المحلّي أو بمصلحة مستوردي الأسلحة من الخارج حفاظًا على عمولاتهم الكبيرة، حتّى لو لم تكن هناك ضرورة حقيقيّة لذلك الإنفاق وتلك الواردات.
إذن، عندما يتمّ الحديث عن الإنفاق العسكري كاقتطاع من فرص التنميّة الاقتصاديّة – الاجتماعيّة وزهوة الحياة، فإنّ ذلك يتعلّق فقط بتضخّم ذلك الإنفاق فوق الحاجة الضروريّة لضمان حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها.
المجمّع الصّناعي – العسكري الأميركي: اختراع الحروب وتدمير الشّعوب
على الرّغم من وجود الخلافات الدوليّة التي تشعل الحروب، أو المشاكل الدّاخليّة التي تشعل الصّراعات الأهليّة، إلا أنّها يمكن أن تكون أقلّ كثيرًا، لو لم يكن هناك من يعمل بشكل دؤوب على إشعالها باعتبارها مصدرًا للدّخل والتفوّق والهيمنة والازدهار الدموي للمجمّعات الصناعيّة – العسكريّة وللدّول الكبرى التي تملك أهمّ تلك المجمّعات المسيطرة على توريد السّلاح عالميًّا، وعلى رأسها الولايات المتّحدة التي تملك 41 شركة من الشركات المائة الأكبر في تصنيع وتوريد الأسلحة في العالم.
الحروب وأنهار الدّماء تعني زيادة الطّلب على منتجات الدّمار التي يُنتجها المجمّع الصناعي – العسكري الأميركي
وبلغت مبيعات تلك الشركات 317 مليار دولار تُعادل نحو نصف مبيعات الشركات المائة الأكبر عالميًّا في عام 2023. وتبلغ قيمة المشتريات الأميركيّة الحكوميّة والخاصّة أكثر من 90% من إجمالي مبيعات المجمّع الصّناعي – العسكري الأميركي. وبالتّالي فإنّه من المهمّ للغاية لهذا المجمّع أن يظلّ المجتمع الأميركي قائمًا على حريّة الحيازة الفرديّة للأسلحة مهما كانت الجرائم التي يؤدّي إليها ذلك، وأن تظلّ الولايات المتحدة متورّطةً في سباقات تسلّح، وأن تدخل أو تُشعِل عمدًا صراعاتٍ وحروبًا كما حدث في العراق وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا ومن قبلها في البلقان وفيتنام وكوريا وغيرها من البلدان، لأنّ تلك الحروب وأنهار الدّماء التي تسيل فيها تعني في النّهاية زيادة الطّلب على منتجات الدّمار التي يُنتجها المجمّع الصناعي – العسكري الأميركي.
وربما يفسّر ذلك الرّفض الأميركي القاطع لانضمام روسيا لحلف الـ”ناتو” في عهد بوريس يلتسين قبل ثلاثة عقود لأنّ وجودها في وضع المنافس وليس الحليف يُعدّ ضرورة لاستمرار الإنفاق العسكري المرتفع الذي يغذّي المجمّع الصّناعي – العسكري الأميركي الذي يُعتبر أحد آخر حصون التفوّق الأميركي عالميًّا!
وبلغ الإنفاق العسكري الأميركي عام 2023 نحو 916 مليار دولار، شكّلت نحو 36% من الإجمالي العالمي البالغ نحو 2,4 تريليون دولار في العام المذكور، وفقًا لمعهد ستوكهولم لأبحاث السّلام، ونحو 41% من الإجمالي العالمي وفقًا للمعهد الدّولي للدّراسات الاستراتيجيّة في لندن (IISS). ويبلغ متوسّط نصيب الفرد من الإنفاق العسكري عالميًّا نحو 306 دولارات، بما يوضح حجم هدر الموارد الذي كان من الممكن أن يُوجَّه للتنميّة الاقتصاديّة وتحسين الأحوال المعيشيّة للبشر، لو كان هناك استقرار في العلاقات الدّوليّة يسمح بتخفيض الإنفاق العسكري العالمي.
روسيا والصّين: إنفاقٌ عسكري أقلّ
على الرّغم من أنّ روسيا القطب النووي الآخر عالميًّا، منخرطة في حربها ضد أوكرانيا ومن خلفها الحلف الأطلسّي (ناتو)، إلّا أنّ إجماليّ الإنفاق العسكري الروسي عام 2023 بلغ 109 مليارات دولار، بما شكّل نحو 4,5% من الإجمالي العالمي، ونحو 12% من إنفاق نظيره الأميركي.
وجاءت روسيا في المرتبة الثّالثة عالميًّا بالنسبة للإنفاق العسكري بعد الصّين الثّانية التي بلغ إنفاقها العسكري نحو 296 مليار دولار في العام عينه. وتجدر الإشارة إلى أنّ القيمة الحقيقيّة للإنفاق العسكري الصّيني وفقًا لتعادل القوى الشرائيّة تبلغ نحو 585 مليار دولار عام 2023، إذ إنّ سعر صرف اليوان الصيني البالغ 7,2 يوان لكل دولار عام 2023، لم يكن يزيد عن 3,64 يوان لكل دولار وفقًا لتعادل القوى الشرائيّة. والأمر عينه ينطبق على روسيا حيث يبلغ سعر صرف الدولار مقابل الروبل في السّوق ثلاثة أمثال السّعر الحقيقي القائم على تعادل القوى الشرائيّة والذي بلغ وفقًا لصندوق النّقد الدّولي نحو 28,4 روبل لكل دولار عام 2023.
الدّول العربيّة المستورد الرئيسي للأسلحة عالميًّا: بعضها يتقادم ولا يُستخدم!
بقي أن نشير إلى أنّ الدّول العربيّة في الخليج وليبيا والجزائر، تأتي ضمن الأعلى في إنفاقها العسكري كنسبةٍ من النّاتج المحلّي الإجمالي. وعلى الرّغم من ذلك فإنّ الدّول العربيّة تحظى بمكانةٍ بائسة في مجال الصّناعات العسكريّة، حيث لا تظهر أي شركة عربيّة ضمن المائة شركة الأكبر عالميًّا.
الأجدى أن تقوم الدول العربية بصناعة الأسلحة لتقليل التّكاليف وتطوير تقنيّات وطنيّة
والمنطقة العربيّة هي الأكثر استيرادًا للأسلحة في العالم ما عدا في اللحظات الاستثنائيّة مثل الحرب الأوكرانيّة – الروسيّة، ولا تشارك إلّا بقدرٍ هزيل في مزايا التصنيع بدلًا من الاستيراد. وحتّى تلك الأسلحة المستوردة بتكاليف باهظة، تتقادَم في غالبيّة الدّول العربيّة من دون أن تُستخدم، فضلًا عن قيود المورّدين على استخدامها!
وطالما تقوم المنطقة العربيّة باستيراد الأسلحة، فإنّ الأجدى هو أن تقوم بصناعتها لتقليل التّكاليف، وخلق فرص العمل المحلّية، وتطوير تقنيّات وطنيّة، والتخلّص من العمولات الباهظة لسماسرة عقود توريد السلاح.
(نقلا عن “عروبة 22”)