محمد حماد
ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى دارت معارك كلاميّة اشتدّ أوارها في ساحات ومواقع التّواصل الاجتماعي بين أنصار “حزب الله” وخصومه، تبارى الجميع في إثبات وجهة نظره، بين القائلين بهزيمة الحزب والذّاهبين إلى تحقيقه نصرًا كبيرًا على العدوان الصّهيوني عليه وعلى لبنان.
بيان الأمين العام للحزب الذي أعقب إعلان الاتّفاق على وقف الحرب ربما هو السّبب المباشر الذي أجّج نيران النّقار الذي لم يخمد بعد. الشّيخ نعيم قاسم ارتكب ـ في نظري ـ مبالغةً شديدة حين قفز فوق سؤال النّصر أم الهزيمة ليعلن بكل تأكيد أنّ ما تحقّق عام 2024 يمثّل انتصارًا يفوق انتصار 2006!.
المعيار الجوهري الوحيد لقياس النّصر أو الهزيمة هو مدى تحقيق الحرب للأهداف التي قامت من أجلها. خسارة الأرض والأرواح ليست بالضّرورة هزيمة، والصّمود في الحرب وحده ليس بالتّأكيد نصرًا، خاصّة إذا لم يُترجم في السّياسة.
الحرب هي تحقيقٌ لأهدافٍ سياسيّة بوسائل عسكريّة، على هذا يجب أن يكون النّقاش، “حزب الله” كانت أهدافه مُعلنة على لسان أمينه العام السابق قبل استشهاده، خلاصتها: تحقيق جبهة إسناد قويّة للمقاومة الفلسطينيّة، وعدم السّماح بهزيمة “حماس” على جبهة غزّة، وردع العدو عن استهداف لبنان.
“حزب الله” بعد أن فقد كل ما فقد يواجه اليوم لحظة الاعتراف بالحقائق
ممّا لا شكّ فيه، ولا يقبل التشكيك من أحد، أنّ “حزب الله” نجح في توجيه ضّربات إلى عمق الكيان الصّهيوني، ستبقى تؤرق الذّاكرة الإسرائيليّة طويلًا. ويمكن القول إنّ الحزب بصموده في المعركة البريّة استطاع أن يحوّل هزيمةً ساحقةً بعد الضّربات المتلاحقة التي وُجّهت إلى الصّفوف الأولى من قياداته، وبعد معركة الـ”بيجر”، ولم تنتهِ باستشهاد أمينه العام، إلى خسارة نسبيّة لم تقضِ عليه.
هذه الحقيقة الأولى، أما الحقيقة الثّانية فإنّ المحصّلة السياسيّة لاتّفاق وقف إطلاق النّار لا يمكن أن تكون مُرضيّة للمقاومة، ولا هي حقّقت أهدافها، ولا هي تليق ببسالة المقاومين، ولا بتضحيات البيئة الحاضنة وتعاضُد الجبهة الداخليّة اللبنانيّة.
الفارق كبير بين الموقف والموقع من القرار 1701 في العام 2006، وبين الموقف والموقع اليوم من الاتّفاق الذي يفرض تنفيذ هذا القرار بعد تعطيل دام لمدة 18 سنة.
في 2006، كنا أمام قرارٍ أممي صادر عن مجلس الأمن الدّولي، أنتج انسحابًا اسرائيليًّا من الأراضي التي دخلتها تحت وقع ضربات المقاومة، والأهمّ أنّه لم يحدّد أيّ آليّة لنزع سلاح “حزب الله”.
في 2024، نحن أمام اتّفاق وضعته أميركا الشّريك الرئيسي لإسرائيل في حربِها على غزّة ولبنان، ووافقت عليه الحكومتان اللبنانيّة والإسرائيليّة، بقبولٍ من “حزب الله”، وبرضا إيراني معلن.
لا يكتفي الاتّفاق ـ الذي يعتبره البعض نصرًا ـ بوضع آليّةٍ لنزع سلاح “حزب الله”، بل وضع هذه الآليّة في اليد الأميركية التي لا تُخفي سياستها القائمة على نزع سلاح “حزب الله” وتفكيكه وحصر نشاطه في إطار سياسي.
أحد أهم منتجات الاتّفاق أنّه أنهى عمليًّا “جبهة المساندة” من لبنان، وربّما سيكون له تأثير في الجبهات الأخرى في ظلّ الموقف الإيراني الدّاعم للمضي قدمًا في تنفيذ الاتّفاق.
أخطر ما في آليّة تنفيذ الاتّفاق أنّ أميركا هي مرجعيّته، وهي مرجعيّة معروفة الانحياز سلفًا إلى الجانب الإسرائيلي، فضلًا عن التزامها بتقديم تقارير دوريّة لإسرائيل، عبر أقمارها الصّناعية عن تحرّكات “حزب الله” التي يُحتمل أن تكون تهديدًا للأمن الإسرائيلي.
الأسوأ أنّ الفرصة صارت سانحة الآن لأن تعمل إسرائيل ـ بمساندة على الأرض من أميركا ـ لكي تمنع إعادة تسليح “حزب الله”، وغلق كل طرق الإمداد له التي كانت مفتوحة عبر السّنوات العشرين الماضيّة.
“حزب الله” بعد أن فقد كل ما فقد، يواجه اليوم لحظة الاعتراف بالحقائق، لأنّ عاقبة التّغافل عنها لا يمكن أن تكون في مصلحة أحد، وأوّل الخاسرين سيكون “حزب الله” نفسه.
لن يفيد أحدٌ كلّ هذا الصخب، لا من الأنصار ولا من الخصوم، وربما لا أتجاوز الحقيقة إذا قلتُ إنّ خسارة “حزب الله” وأنصاره مؤكّدة إذا لم يتوقّف الحزب أمام ما جرى من أوّل قرار الدّخول فيما سُمّي بحرب “الإسناد” التي تحوّلت إلى حرب “مشاغلة” ثم انتقلت إلى حرب “مشاركة” حتى انتهت إلى قبول خطّة وقف إطلاق النار التي رعتها الولايات المتحدة الأميركية، ووافقت عليها إسرائيل.
وقفة “حزب الله” مع النّفس، ومن بعد مع القوى السياسيّة اللبنانيّة لم تعُد ضرورةً فقط، صارت واجبة، بل فرض عين على الحزب وأنصاره.
الاصطفاف الوطني في الدّاخل اللبناني وحده هو الضّامن لهزيمة المشروع الأميركي – الإسرائيلي الهادف إلى تنفيذ مخطّط إسرائيل الكبرى على حساب الضفّة الغربيّة، ومن أراضي الدّول العربيّة المجاورة للكيان الصّهيوني.
الأهمّ ألّا نهزم أنفسنا بالتّعامي عن الحقائق أو إنكارها
النّصر الحقيقي يتحقّق بوعي قيادات وكوادر وأنصار “حزب الله” بخطورة اللّحظة الرّاهنة، وعدم التقوقع على الذات، بل المبادرة إلى الانفتاح على مكوّنات التّركيبة اللبنانيّة، وفي الوقت عينه على القوى الوطنيّة اللبنانيّة أن تدرك أنّ إضعاف موقع المقاومة اليوم ليس في صالح لبنان، المطلوب أن تتجاوز القوى الوطنيّة أوضاعها الطائفيّة وصراعاتها السياسيّة إلى ما بعد إنهاء الخطر الذي يتهدّد أراضي لبنان وسلامة شعبه.
هل يملك الحزب – بظروفه الحاليّة – قيادة سياسيّة قادرة على إدارة الفترة المقبلة فائقة الحساسيّة وشديدة السّيولة ليتمكّن من إحراز بعض المكاسب في تطبيق الاتّفاق وحرمان إسرائيل من بعض أو أغلب ما تريده؛ كي نصل في النّهاية إلى صورة نهائيّة أبعد ما يمكن عن الهزيمة.
كم مرة هزمتنا الخيانات، وخذلتنا الظّروف، الأهمّ ألّا نهزم أنفسنا بالتّعامي عن الحقائق، أو إنكارها الذي لا ينفع غير الأعداء.
(نقلا عن “عروبة 22”)